مرة أخرى، تعود أجواء الإثارة الإعلامية المرافقة لتسريب “وثائق بنما” المتعلقة بحسابات أثرياء في واحدة من أهم “الجنات الضريبية”، لتذكر بسابقتها “وثائق ويكيليكس” التي سربت مراسلات الخارجية الأمريكية وسفاراتها حول العالم. وفي الحالتين، انشغل الناس في مختلف بقاع الأرض، كل لأسبابه، بمتابعة تداعيات هذه الفضائح، مع أمر مشترك وحيد لا يجرؤ الكثيرون على الاعتراف به، ألا وهو أن جهود الإعلام على هذا الصعيد كانت أشبه “بالجبل الذي تمخض فولد فأرا”، وأن أكثر من اهتموا بالأمرين معا هم الأقل احتياجا لهذه المعلومات!!
وإذا اقتصرنا الحديث أساسا على “وثائق بنما”، نقول أننا قد نتفهم أن يهتم بهذه الوثائق الإعلام والرأي العام في الدول “الديمقراطية” الشفافة، التي يوجد فيها قانون يحترم، لأن “بعض” وليس كل ما كشف يعتبر مخالفة قانونية يحاسب عليها القانون، لكن أن تحاول وسائل إعلامنا أن تصطنع عندنا حالة “الدهشة الغربية”، فهو أمر في غاية الغرابة وذلك لسبب بسيط: بالله عليكم ما المفاجئ الذي كشفته الوثائق من كون مسؤولي ورجال أعمال العديد من دولنا العربية والإسلامية والعالمثالثية لديهم حسابات سرية في دول خارجية، وأنهم يتلقون عمولات أو يبيضون أموالا أو يفرغون أوطاننا من العملات الصعبة؟؟ وهو ما ينطبق قبلها على وثائق “ويكيليكس”، التي خلت، في رأينا، من أية مفاجئة بخصوص كون سفارات الولايات المتحدة ضالعة في توجيه وإعطاء أوامر لرؤسائنا ووزرائنا ومسؤولينا، تماما كما كان عليه الحال أيام “المندوب السامي” خلال حقبة استعمار هذه الدول.
وقبل أن نسترسل أكثر، وللتوضيح فقط، نقول أن هناك نوعين من الوثائق تلك التي كشفت عنها “الفضيحة” الأخيرة: الأولى، المعهودة التي تتعلق بأرصدة وشركات يتم تأسيسها في دول “الجنات الضريبية” من قبيل الجزر العذراء البريطانية، جزر كايمان، هاييتي، بنما، والعديد من جزر الكاريبي، التي تطبق معايير صارمة تجاه السرية المصرفية، وهذه الأرصدة والشركات يتم إنشاؤها بغرض تبييض الأموال وتلقي العمولات المليونية عن صفقات فاسدة في بلدانهم الأصلية، وغيرها من الأعمال التي يجرمها القانون. هذا النوع من الأرصدة والشركات، يفترض أن لا يتم خلطه “عمدا” من قبل وسائل إعلام “شعبوية” تقتات على الفضائح وتعيش على تهييج الناس ومخاطبة غرائزهم بكل ما هو مثير، مع نوع آخر من النشاط التجاري تتفاوت المواقف منه بين بلد وآخر، ونقصد به الأرصدة والشركات التي تبحث عن ملاذات ضريبية لا تغرق عملائها بالضرائب غير المنطقية، فتلجأ إلى تأسيس شركاتها في هذه الملاذات الضريبية Tax Havens. هذا النشاط الأخير هو سلوك معتمد من قبل معظم الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، والعاملة في مختلف أوجه النشاطات الاقتصادية المشروعة، لتجنب الضرائب المبالغ فيها التي تفرضها عليهم الدول الغربية.
إن الفائدة الحقيقية التي يمكن أن تعود على المواطنين من كشف هذه الأنشطة، لا يتعلق بتسقط أخبار مسؤوليهم ورجال أعمالهم، الذين يعلمون أنهم أبعد ما يكونون عن الشفافية والنزاهة، بل بدراسة هذه الوثائق لتكوين منظومة قانونية مضادة تصعب هذه الأنشطة، ناهيك عن تعديل قوانين الاستثمار وزيادة الشفافية فيها من أجل قطع الطريق على فرص تكوين ثروات من الرشوة، وهي مهمة المسؤولين وليس الأفراد العاديين. وبخصوص من يلجأوون لتأسيس شركات أعمال مشروعة في الملاذات الضريبية، فيجب أن تعيد دولنا النظر في قوانينها الضريبية الجائرة، التي تجعل الناس تبتكر الوسائل، داخليا وخارجيا، للتهرب من هذا العبء الكبير. أما الأخبار التي لا تفيد إلا في زيادة مبيعات الجرائد الورقية، وترفع عدد زيارات المواقع الإلكترونية، فإنها لا تعود على المواطنين، مثلها مثل جميع أخبار الفضائح الفنية والسياسية والاجتماعية والرياضية والثقافية.. الخ بأي خير.
لقد كان الأجدى، أن ينكب متخصصون على دراسة جميع الوثائق المسربة عبر ويكيليكس، من أجل هدف مجد هو دراسة سلوك وزارة الخارجية الأمريكية، من خلال دراسات نقاط التنبه والرصد والمتابعة التي تجد سفارات الولايات المتحدة في مختلف دول العالم أنها تستحق كتابة تقارير حولها، وذلك من أجل تأسيس رؤية جديدة للتعامل مع هذه الدولة العظمى، يناسب منطق اشتغال مؤسساتها، أو كنوع من “التكوين المستمر” لسفرائنا وموظفي سفاراتنا، لتعلم كيفية كتابة التقارير ورصد الأنشطة المهمة في البلاد التي يعملون بها. أما إشغال الناس بالفضائح، فهو مما لا فائدة ترجى منه، وأثبتت التجربة أنه لم يقدم مسؤولا واحدا للمتابعة القضائية، لأنه في مجتمعاتنا يصدق قول المسيح عليه السلام: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر!.
أخيرا، فمن المؤسف حقا أن تمتلئ صفحات وسائلنا الإعلامية، وحوائط مواطنينا الافتراضية بالفضائح من كل صنف ونوع، في سلوك عبثي جامع لا يستثني “إلا من رحم ربك”، لنكرس في النهاية بهذا السلوك استقالتنا من الفعل الناضج والعقلاني. إن مكافحة الفساد والمفسدين هي فرض عين لا عذر لأي منا في الاستنكاف عنه إن أردنا لمجتمعاتنا المزيد من الصلاح، وفضح الفاسدين والمفسدين هو أمر محمود دون شك، بعد التثبت من فسادهم حتى “لا نصيب قوما بجهالة”، لكن الاقتصار على هذه الوسيلة “النضالية”، ينتهي بتطبيع العلاقة مع الفساد، أو يجعل الحساب والعقاب دون ضوابط من علم أو ضمير أو قانون بيد المواطنين أنفسهم، أو بيد بضعة رجال إعلام “فاسدين” بدورهم، يستخدمون هذه المعرفة كوسيلة لابتزاز فاسدين آخرين، وهو ما يحمل في طياته ضررا أكبر من النفع الذي يترتب عليه، لذا اقتضى التنبيه.. والله من وراء القصد.