في الساعات الأخيرة، يحبس الليبيون أنفاسهم في انتظار خروج “الدخان الأبيض” من نوافذ قصر المؤتمرات بالصخيرات، معلنا توصل الفرقاء الليبيين إلى اتفاق سياسي يحقن دماء أبناء شعبهم أخيرا، ويطرد عنهم مخاوف الهوة السحيقة من الفوضى التي يقودهم إليها قادتهم العسكريين، ويمنحهم الأمل بغد أفضل، عنوانه حكم ديمقراطي تتنافس فيه الأحزاب بالبرامج عبر صناديق الاقتراع، ولا يملك فيه أي عسكري ليبي مهما علا شأنه أي مبرر للتدخل في الحياة السياسية.
حياة بمثل هذه المواصفات من البديهي أن لا تكون غاية عسكر ليبيا في طبرق وطرابلس، وبالتالي فلن نحتاج إلى كبير عناء من أجل وضع قادة الميليشيات المسلحة في شرق ليبيا وغربها على رأس قائمة معرقلي التوقيع على الاتفاق المطروح في الصخيرات. دور بدا واضحا من خلال إعلان “الجنرال” حفتر عن عمليته الجديدة “حتف” بعد أن فشلت عمليته الأولى “الكرامة”. عملية ليس لها أي هدف باستثناء إجهاض الجهود السياسية المبذولة في الصخيرات، والجري وراء سراب مجد شخصي لا يزال يبحث عنه ولو حرق ليبيا من أجله. سلوك مماثل قام به، من وراء ستار هذه المرة، العسكر الممسكون بزمام الأمور في طرابلس، عندما فرضوا شروطهم التعجيزية في مراحل الحوار الأخيرة، ضدا على رغبة أغلبية أعضاء المؤتمر الذين يميلون إلى القبول بالتسوية المطروحة والمراهنة على تحسين شروطها عبر الممارسة.
في ارتباط مع العسكر، يمكن وضع الأطراف الإقليمية الداعمة لهما (عسكر طبرق وعسكر طرابلس وبنغازي) في نفس خانة المعرقلين. كيف لا، وهذه الأطراف المعروفة لكل ليبي ومراقب تحرك بيادقها من العسكر في كل لحظة مفصلية تبدو فيها كفة الحلول السياسية راجحة، وهي بهذا السلوك لا تأبه بالثمن الذي يدفعه الليبيون من دمائهم وخيرات بلادهم في هذه الحرب الإقليمية والدولية “القذرة”، التي تخاض “بالوكالة” على أرضهم، وللأسف، بسواعد أبنائهم.
طرف ثالث، يرتبط بسابقه وإن بأدوات مختلفة، ونقصد فيه الدبلوماسية الجزائرية، التي تعمل للأسف على إفشال التوقيع لا لشيء سوى لكونه يتم في الصخيرات وليس في الجزائر العاصمة، التي تحتضن حوارا مشابها، في مناكفة “سخيفة” لا معنى لها. فليس ذنب المغرب أن تختاره الأمم المتحدة لاحتضان الحوار “الرسمي” الذي ترعاه هي والقوى الدولية الفاعلة، لسبب أساسي هو غياب “الأجندة الخاصة” المغربية في الداخل الليبي، ووقوفها على مسافة واحدة من مختلف فرقاء الأزمة الليبية، وغنى تجربته السياسية الفعلية التي توجد باقي الدول العربية، وعلى رأسها ليبيا، بل والجزائر نفسها، في أمسّ الحاجة لمحاكاتها والتعلم من دروسها البليغة. تجربة يحتكم فيها الأحزاب من مختلف المرجعيات الأيديولوجية، إسلامية وليبرالية وقومية واشتراكية بل وشيوعية، إلى صناديق الاقتراع، من أجل خدمة الصالح العام للمواطنين، في انتخابات لا يطعن أحد في نزاهتها، ولا يرفض بالتالي ما تتمخض عنه من نتائج.
وقد يرى البعض أن الوسيط الأممي برناردينو ليون نفسه هو أحد العوامل التي أثرت سلبا على مسار الحوار، ونحن نرى أنه إن كان هناك من وجاهة لهذا الطرح، فمردها كثرة “مسوداته” وتردده، والتسرع في الوصول إلى خلاصات لا تحمل ما يكفي من توازن لتكون مقبولة من مختلف الأطراف، وإن بدرجات متفاوتة.
وأيا كان الأمر، فالأمم المتحدة والقوى الدولية، وكخلاصة لعشرات الاجتماعات التي احتضنتها الصخيرات والجزائر والقاهرة وجنيف وليبيا، تضع أمام الفرقاء الليبيين أخيرا “وثيقة نهائية”، لا يدعي أحد مثاليتها، لكن يجمع كل منصف حريص على مصلحة الشعب الليبي أنها تصلح أساسا لتسوية سياسية معقولة، تدخل عسكر ليبيا إلى ثكناتهم، وتوجه جهودهم لحرب فلول “داعش”، وحماية حدود الوطن من آفتي تهريب البشر والسلاح، وتسلل عناصر إرهابية تعيث في الصحراء فسادا، وتتيح لساسة ليبيا أن ينكبوا على وضع البرامج الكفيلة ببناء دولة حقيقية على أسس عادلة، دولة غيّبها “نظام العقيد” لأزيد من أربعة عقود، ومن الخيانة أن يستمر الفرقاء الحاليون في تغييبها أكثر.