قبل أيام، وبعد ما تسرب عن اعتزام الحكومة التونسية تسمية عدة موظفين ساميين، من إطارات عليا في الإدارة العمومية ومديرين لعدة مؤسسات عمومية، أو ولاة (رؤساء المحافظات)، ناهيك عن موظفي الدبلوماسية التونسية من قناصل وسفراء، ثار الجدل مجدداً، محتدما هذه المرة، حول هذه التعيينات، أو ما يسمى في تونس بالتسميات، وهي من اختصاصات الحكومة، تحت إشراف رئيسها بشكل عام، بحسب ما نص عليه الدستور الجديد للبلاد.
المزيد: الحكومة التونسية الجديدة والملفات الحارقة
يحتاج الأمر، بعيداً عن حماسة السطح، إلى نقاش هادئ، ففي المبدأ، تكون التسميات في السلطة التنفيذية من مهام أعضاء الحكومة، بالتشاور مع مصالح رئاسة الحكومة، فيما يتعلق بالجوانب الإدارية والقانونية خصوصاً، فالتسمية، في مثل تلك الخطط الوظيفية، محددة بجملة من التشريعات التي لا يمكن تجاوزها، وإلا كانت محل رفض من مصالح رئاسة الحكومة والمحكمة الإدارية، فالتسميات التي تنشر في الجريدة الرسمية، في شكل أوامر، تذيل عادة بعبارة شهيرة هي”على رأي المحكمة الإدارية”، التي تسهر قانوناً على سلامة الجانبين، القانوني والشكلي، في مثل هذه التسميات. ولكن تظل المسؤولية الأدبية والأخلاقية والسياسية ملقاة على عاتق أعضاء الحكومة الذين اصطفوا هؤلاء، ورشحوهم دون غيرهم، إلى مثل تلك المناصب، ويتشاور رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية، في بعض المسؤوليات الحساسة، على غرار المناصب الأمنية أو الدبلوماسية.
لا تتعلق المسألة، حينئذ، باستيفاء تلك التعيينات شروطها القانونية، على غرار الأقدمية والصنف وغيرها، فتلك أبجديات لا يمكن تجاوزها مطلقاً، بل تكمن في شبهة الولاء الحزبي واستخلاق حالة من الزبونية السياسية، عبر استعمال المرفق العمومي، كمقايضة أو المحاباة وتشكيل لوبيات ومتنفذي مصالح، يدينون لمن سمّاهم، قبل الولاء للدولة، خدمة المواطن عقيدة مفترضة للمرفق العام. تلك الصلاحيات التقديرية الملقاة على أعضاء الحكومة، أو من تفوض لهم ترتيبيا مثل هذه الصلاحية تتعاظم في سياق انتقالي، لم تتعاف فيه الدولة، وأساسا أجهزتها التنفيذية من مرض عضال، استعملت فيه الإدارة كمرفق معملا للولاء، وإنتاج الزبونية وحدثت فيه أفظع التداخلات بين العائلة والدولة والحزب، ما خرب الاقتصاد، وشكل الحدائق الخلفية للفساد الذي عرفته البلاد.
من خلال ما نشر من كتابات، كانت في شكل بيوغرافيات، أو شهادات على تلك الحقبة، وبعض القضايا التي عرضت على العدالة. في المدة الأخيرة، كانت التسميات تتم، في أحيان كثيرة، داخل دوائر عائلية “ووسطاء تعيينات” ومتنفذين ورجال أعمال وأمنيين ومهربين لزرع من يضمن لهم مصالحهم، وكانت، أحيانا أخرى، تتم في شكل مكافآت على تقديم خدمات خاصة. كان جلب حيوانات نادرة من إفريقيا، أو أعشاب غريبة، سببا في تسمية بعضهم في أعلى مناصب حكومية.
المشكل الحالي المتعلق بالتسميات ملتبس ومعقد، لأنه مرتبط بتحديد طبيعة من يحكم حاليا وآليات الحكم، فطورا يدّعي حزب نداء تونس أنه الحزب الحاكم بحكم ما آلت إليه النتائج الانتخابية التي أهلته دستوريا للحكم، وطوراً يدّعي أنه يحكم مع حلفاء داخل ائتلاف حكومي رباعي الأضلاع، وطورا يدعي بعضهم أنها حكومة هجينة، ليست ائتلافاَ، ولا حزبية، وخصوصا أن من يرأسها، أي الحبيب الصيد، “شخصية مستقلة”. ولكن، اختارها الحزب الفائز انتخابياً، ليحكم استناداً إلى برنامجه، علماً أن الأمر يتعقد، خصوصاً وأن بعضهم يدعي أن الائتلاف يحكم من خلال برنامج حكم، و ليس وفق برنامج انتخابي، قدمه حزب النداء للناخبين، وانتهت مهمته بصدور نتائج الانتخابات. ويزداد الأمر تعقيداً، إذا ما استحضرنا أن تمثيلية الأحزاب الحاكمة غير متوازنة، ولا تعكس حجم وزنها الانتخابي الذي أباحت به صناديق الاقتراع، ولعل حالة حركة النهضة أكبر مؤشر على هذا الخلل.
وفي كل الحالات، هل سيحكم رئيس الحكومة بموارد بشرية من ساحة استقلاليته، أم من محضنة “نداء تونس” أم ممن شكلوا معه تحالفاً أو ائتلافا حاكما. تلك هي ملامح المعضلة التي تشوش طرق تحليل مشكل معقد في الأساس، أي مشكل التعيينات.
المزيد: إلى أين تسير تونس
أعتقد أن التباس طبيعة الحاكم الحالي، فضلاً عن صيغ وآليات التنسيق وغيرها من المسائل الإجرائية، تتضاعف حدته، ونحن في مرحلة لم تستقر فيها مؤسسات الجمهورية الجديدة، إلى جانب افتقاد الخبرة في فصل السلطات، واحترام استقلالية المؤسسات ومنع تداخلها، وتتعاظم المخاوف، إذا ما استحضرنا حداثة فصل السلطات، على غرار الحكومة ورئاسة الجمهورية ومجلس نواب الشعب.
لا ندري ما الذي قاد تحديداً موجة الاستنكارات الحالية التي يعبر عنها بشكل متباين حلفاء “نداء تونس” في الحكم، فلقد بدأت سلسلة التعيينات مباشرة، بعد تولي “نداء تونس” الحكم مع حلفائه. ففي كل مرة تطلع على الرأي العام بيانات استغراب واستنكار من “النهضة” وبقية الشركاء الآخرين، لافتين أنظارنا إلى أنهم لم يستشاروا حول تلك التسميات، ما يوحي بأنها حدثت في غرف حزبية مغلقة، بل إن قياديين من حزب النداء نفسه، عبروا في مواقع عديدة، ألا علم لهم بها وأنهم آخر من يعلم، واتهم بعضهم لوبيات معينة، تقف وراء تلك التعيينات.
ولعل أحدث تلك التسميات تسمية المديرة العامة لمركز النهوض بالصادرات، وهي من كانت، قبل الثورة، آخر رئيسة للاتحاد الوطني للمرأة، الذراع النسائي للتجمع الدستوري، وكذلك تسمية المدير العام لمعهد تونس للدراسات الاستراتيجية، التابع لمؤسسة رئاسة الجمهورية، والذي عينه بن علي على أكثر من وزارة، منها وزارة الخارجية.
استفراد النداء بالتسميات، وأساسا من ذوي خلفية تجمعية، أي التي اشتغلت مع بن علي، أو أحيانا أخرى من اليسار، كما وقع بشكل خاص في الوزارات “المضمومية” على غرار وزارة الثقافة والتعليم العالي وغيرها، يفيد حرصاً مدروساً، على محاولة الموازاة ما بين رافديه الأساسيين، هو الذي أثار حفيظة شركائه.
بعيدا عن انتهازية تلك الأصوات التي صمت آذاننا في عهد الترويكا، وتصمت الآن، فإن من حق الحزب الحاكم، أو الأحزاب الحاكمة، أن تعين من تراه صالحاً، وممن تتوفر فيهم الشروط القانونية والأدبية، لتنفيذ برنامج الحكم، بقطع النظر عن التباسات أشرنا إليها سابقاً. ولكن، عليها أن تأخذ بالاعتبار طبيعة مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومخاطر الانزلاق مجدداً إلى دولة الحزب، وهذا بعد بيداغوجي، نعلم من خلاله أجيالا قادمة خدمة الدولة والمواطن، قطعا مع الزبونية.
ما يؤشر إلى ما ينخر ثقافتنا السياسية حالياً أن ردود الأفعال كانت مختلفة تماما عما كان يحدث زمن الترويكا التي تذهب فيها التهم إلى حد مزاعم “أخونة” الدولة، من خلال التعيينات التي كانت تعمد إليها الترويكا و”النهضة” خصوصاً. ولقد تشكلت عدة جمعيات واتحادات، كانت مهمتها الدائمة كشف تلك التعيينات، وهي التي كانت تنشر بالجريدة الرسمية، والغريب أن بعضها استيقظ، أخيراً، بعد سبات عميق. ولكن، ليبدأ من جديد استكمال عد التعيينات التي حدثت في زمن الترويكا، متناسيا أن ما يناهز ثلاث سنوات مرت على تلك التجربة، وأن حكومتين تعاقبتا بعد ذلك، تعمدتا اتباع ما يشبه حملة اجتثاث ممنهجة على من عينتهم الترويكا، بقطع النظر عن كفاءاتهم، إلى حد أصبح فيه التعيين، آنذاك، تهمة يدفع بعضهم من كفاءات الإدارة التونسية ثمنها باهظا حاليا. رافقت الحملة تلك الكثير من التشفي والانتقام، فلما عجز الخيال السياسي اللغوي عن ابتكار مفردة ندأنة الدولة، نسبة إلى اختراق “النداء” جهاز الدولة وتوظيفه لها من خلال التعيينات مثلاً؟
*وزير سابق/”العرب”