المغرب: الإجهاض بين الحق والاستحقاق

النقاش حول ظاهرة الإجهاض السري انطلق في المغرب وسط تخوفات من طغيان الهواجس السياسية والإيديولوجية ربما قد تهدد بتقاطب ثنائي بين تيارين: تيار رافض للإجهاض في جميع الحالات باعتباره جريمة قتل للنفس، وتيار يطالب بالإباحة المطلقة للإجهاض باعتباره حرية شخصية تندرج في سياق حرية التصرف في الجسد..
بين هذين التيارين نحتاج إلى نقاش هادئ تتقاطع فيه جميع المقاربات: الدينية والقيمية والطبية والحقوقية. ولا مجال لاختزال النقاش في بعد واحد بطريقة فيها الكثير من التطرف والغلو..
ليست هناك تعريفات دقيقة للإجهاض، لكن من المؤكد أن التشريعات الجنائية لمختلف البلدان العربية والإسلامية تتعامل معه كجريمة يعاقب عليها القانون، كما تعاقب على المساعدة على ارتكابها أو المشاركة فيها أو التحريض عليها.
لكن فقهاء القانون يعرفون جريمة الإجهاض بأنها وضع نهاية لحالة الحمل قبل الموعد الطبيعي للولادة بطريقة عمدية بأية وسيلة كانت. لكن القانون فتح نافذة لإباحة الإجهاض في بعض الحالات المحدودة.
القانون الجنائي المغربي اعتبر الإجهاض جريمة يعاقب عليها القانون، ولم يربط هذه الجريمة بعمر معين للجنين فمتى تم تلقيح البويضة داخل رحم الأم أضحت خاضعة للحماية القانونية من جريمة الإجهاض، لكنه أجازها في حالات معينة.
فلا يعاقب على الإجهاض في حالتين: أولا، إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم، شريطة إذن من الزوج.
وعند عدم وجود الزوج أو إذا امتنع الزوج من إعطاء موافقته أو عاقه عن ذلك عائق فإنه لا يسوغ للطبيب أو الجراح أن يقوم بالعملية الجراحية أو يستعمل علاجا يمكن أن يترتب عنه الإجهاض إلا بعد شهادة مكتوبة من الطبيب المعتمد لدى السلطات العمومية يصرح فيها بأن صحة الأم لا يمكن المحافظة عليها إلا باستعمال مثل هذا العلاج.
ثانيا، إذا كانت حياة الأم في خطر، وفي هذه الحالة لا يشترط إذن الزوج في هذه الحالة، لكن يجب على الطبيب أن يشعر بذلك الطبيب الرئيسي للسلطة المحلية.
وبعيدا عن بعض القراءات المتشائمة، أستطيع القول بأن المغاربة سيؤكدون مرة أخرى أن بإمكانهم تجاوز الكثير من المشاكل المجتمعية عبر إعمال المقاربة التشاورية والتشاركية من أجل فهم أعمق للظواهر الكامنة في أعماق المجتمع، واعتماد الحلول الملائمة لمعالجتها..
المنهجية التي أعلن عنها الملك محمد السادس قبل مراجعة أحكام الإجهاض في القانون الجنائي المغربي، هي المنهجية الفضلي في التعاطي مع مختلف الإشكالات المجتمعية..
وقد أحسنت وزارة الصحة حينما أشرفت على تنظيم مناظرة في الموضوع بمشاركة مختلف الأطراف المعنية، وكذا المشاورات الداخلية التي أجرتها وزارة العدل والحريات في الموضوع وهي تستعد لإطلاق مسودة مشروع القانون الجنائي المعدل.. كلها عناصر ضرورية لترسيخ بعض القواعد النموذجية في تدبير الاختلافات المتعلقة ببعض الظواهر الاجتماعية الحساسة.
المنهجية المتبعة تقوم على ضرورة الانتباه إلى التطورات الجارية في المجتمع مع الالتزام باحترام تعاليم الشريعة الإسلامية..ماذا يعني ذلك؟
يعني ضرورة فهم التطورات الحاصلة في المجتمع عبر الإنصات إلى الأرقام المعلنة بشكل صحيح حول ظاهرة الإجهاض غير القانوني الذي يتم بشكل سري داخل العديد من المصحات وداخل البيوت أيضا بمشاركة أطباء وممرضين..
بعض هذه الحالات يمكن أن تصبح منسجمة مع القانون وبعضها يعتبر بالتأكيد اعتداء على النفس البشرية وجريمة يعاقب عليها القانون..
لابد من فهم الأسباب العميقة للظاهرة وتحليل أبعادها القيمية والاجتماعية والاقتصادية، وتفكيك أنواعها وترتيب الأحكام القانونية الملائمة لكل حالة من الحالات الموجودة.. تشخيص المشكلة ينبغي أن يتم انطلاقا من اعتبارات موضوعية تتجاوز النموذج المعياري الذي نتمناه لمجتمعاتنا، فمثلا لا يمكن الانطلاق من مسلمة اعتبار كل عملية إجهاض هي عملية قتل للنفس التي حرم الله ـ هكذا بإطلاق ـ كما تتجاوز في نفس الوقت شرعنة كل أشكال وأنواع الإجهاض بطريقة متطرفة بدون ضوابط قانونية وأخلاقية.. ومن هنا ضرورة الاجتهاد من أجل تطوير القانون الحالي مع احترام أحكام الشريعة الإسلامية..ماذا يعني ذلك؟
يعني ضرورة إعمال أدوات الاجتهاد الجماعي الذي يشارك فيه جميع الخبراء في الموضوع من أطباء وعلماء شريعة وقانونيين من أجل استعراض الحالات الجديدة التي استحدثت في واقعنا بفعل تطور الجريمة مثل حالة زنا المحارم وحالة الاغتصاب الذي يترتب عليه، أو حالات لم ينتبه إليها المشرع في السابق كحالة المرض الذي يهدد الأم بالوفاة في حالة الحمل أو غيرها من الحالات التي يحددها المختصون..وترتيب الأحكام القانونية لكل حالة على حدة على ضوء مقاصد الشريعة وأحكامها بما يحقق مصالح الأفراد والجماعات..
ومعلوم أن من خصائص الشريعة الإسلامية السمحة القائمة على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال أنها وسطية ومعتدلة، وهي قادرة على توفير مصالح العباد سواء كانوا أجنة أو أطفالا أو شبابا أو شيوخا، وأحكامها مرنة وواقعية تتراوح بين الوجوب أوالحرمة أوالكراهة أو الندب أو الإباحة وهو ما يضمن إمكانيات واسعة للاجتهاد حسب تغير ظروف الزمان والمكان..
المصلحة الحقيقية للمجتمع ليست في التحريم المطلق للإجهاض ولا في الإباحة المطلقة له فبين المطالبة به كحق مطلق أو منعه بشكل مطلق هناك الإجهاض المستحق..
فلنعتدل..

٭كاتب من المغرب/”القدس العربي”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *