وجدت الجزائر صعوبة في تجاوز صدمة صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وضيفه رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالز. الحقيقة أن تلك الصورة، التي بدا فيها الرئيس متعبا، تائها، شارد الذهن، في حالة تثير الشفقة، وحّدت الجزائريين: الملايين منهم هزتهم وشعروا بالمهانة والمذلة.
صحيح أن هناك عاملا نفسيا زاد الطين بلة وضاعف الألم والشعور بالذل، هو كون الموقف الذي حملته الصورة حدث مع طرف فرنسي زاد ملحا على الجرح بتسريب الصورة عمداً. مع العلم أن فالز ليس أول ضيف ينشر صورة مع بوتفليقة في تلك الوضعية الصحية المأساوية، بل سبقه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أواخر شباط (فبراير) الماضي، ومرت دون أن ينتبه لها كثيرون.
لكن، ولأن الجزائريين بارعون في حرف النقاشات عن مواقعها الأصلية، أسرفوا في الحديث عن الصورة ومَن نشرها ونواياه المبيّتة من ورائها، وتناسوا النقاش الحقيقي والضروري. واشتغلت الآلة الدعائية الجزائرية، رسمية وشبه رسمية، بقوة باحثة عن المؤامرة ومجتهدة لضمان بقاء النقاش في غير محله حتى لا تُطرح الأسئلة الحقيقية. خلال ثرثرة الآلة الدعائية تلك، سمعنا كلاما عن الكرامة وعن «بوتفليقة خط أحمر»، وغيره.
هكذا كنا أثناء الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي.. مهووسون بالصورة وبماذا يقول عنّا ويظن فينا الآخرون: يلقى مئات الجزائريين حتفهم ذبحا وحرقا كل أسبوع فلا نتألم لقتلهم بقدر ألمنا من أن يقال في الخارج إن الجزائر غير مستقرة وفيها إرهاب لا يبقي ولا يذر!
النقاش الحقيقي والضروري اليوم ليس صورة بوتفليقة مع فالز، ولكن كيف وصلت الجزائر إلى هذه الصورة! ولماذا سمحت لنفسها بالوصول إليها؟ هذا ما يجب أن يؤلم الجزائريين ويُشعِرهم بالعار. هذا ما يجب أن يخيفهم ويقلقهم على بلادهم وأولادهم. تلكم الصورة صدمتهم لكنها لم تفاجئهم، بل اختزلت الواقع الحزين المخيف وأرتهم الحقيقة التي يعرفونها دون أن يروها. لكن الآلة الدعائية أرادت أن تذهب بهم (مرة أخرى) إلى «الخارج» وماذا سيظن فينا ويقول عنا!
إقرأ أيضا: بوتفليقة جسد من دون روح في صورة بألف كلمة
أعترف بأنني، طيلة 17 سنة من حكم بوتفليقة، لأول مرة أشعر بشفقة حقيقية عليه وأتعاطف مع حاله. أكن هذا الشعور للرجل، الذي لم أثق يوما في كلمة من كلامه المتدفق وهو في ذروة مجده وصحته، لأن المرض لم يكن أبدًا عيبا أو مهانة. العيب والخطأ والخطر هو أن يصر صاحبه على ركوب ما يفوق طاقته، وادعاء ما لا قدرة له به. وهو حال بوتفليقة. كيف لرجل في هذا العمر، بعد أكثر من جلطة دماغية، ليس واضحا أنه يفرّق بين الليل والنهار، ولا يعرف هو قبالة مَن، أن يواصل تحمل مسؤولية بحجم رئاسة دولة تحيط بها الحروب والأزمات؟
ولأن بوتفليقة يعيش في برج عاجي مُحاصرا من أفراد عائلته وبعض المقربين منها (لا يراه حتى الوزراء)، لا أحد يعرف بدقة مَن الذي قاد الجزائر إلى تلك الصورة: بوتفليقة ذاته وإصراره على البقاء في الحكم رغم كل هذا المرض، ثم إصراره ثانية على استقبال ضيوف رسميين وهو في تلك الحالة المأساوية. أم محيط بوتفليقة يستغل ضعف الرئيس وهوانه وعجزه ليتحكم في مصير الجزائر من ورائه ومن دون علمه.
يُعرف عن بوتفليقة افتتانه بالسلطة وتمسكه بالكرسي لأنه يرى نفسه الأفضل له والأولى به، ويؤمن بأنه كان يجب أن يحكم الجزائر منذ وفاة الرئيس هواري بومدين في شتاء 1978. ويُعرَف عنه عدم تفريطه في ذرة من الصلاحيات والمسؤوليات التي في يد الرئيس دستورا وقانونا وعُرفا. فلا غرابة، لو بقيت فيه ذرة من الصحة الجسدية والذهنية، أن يتمسك بكرسي الحكم وإن في الشكل الذي كشفته تلك الصورة التي صدمت الجزائريين.
في هذه الحالة، يصبح الرئيس خطراً على البلاد بدلا من ان يكون، كما هو الأصل، حاميها من الخطر. في هذه الحالة، يحتاج بوتفليقة إلى مَن يقنعه بأن الجزائر أكبر وأبقى منه ومنا ومن كل شيء. لكن هل بقي هناك من حوله رجال في مستوى كلمة الحق؟ تلك معضلة أخرى هي إحدى ثمرات بوتفليقة ذاته وسياسة التصحر التي مارسها منذ 1999 والتي فسحت المجال واسعا للأقزام والمتملقين والمطبلين.
أما إذا كان بوتفليقة منهكا وغائبا عن الوعي أغلب الأوقات، كما تردد بعض الروايات، ومع ذلك يصر محيطه على إبقائه رئيسا حفاظا على المصالح المادية والنفوذ، فهنا قد يرقى إلى درجة الخيانة. خيانة ثقة الرجل والتلاعب به وإرغامه على أداء تلك التمثيليات في أرذل العمر والعالم كله يتفرج ويتساءل. وخيانة لدولة وشعب وتعريضهما للخطر لأن منصب الرئاسة في ظروف الجزائر حاليا يحتاج لرجل فذ صلب العود، لا ينام ولا يتعب ولا يغفل ولا يتألم، بل ولا يجب أن يمرض، عساه يفي بما تمليه الظروف وتفرضه.
وعندما لا تتوفر أيّ من هذه الصفات في بوتفليقة ثم يأتي من يبقيه في الحكم رغما عنه وعن الجزائر والجزائريين، فلا وصف لذلك سوى بأنه خيانة. وطالما أن قصر الرئاسة يصر على إخفاء حقيقة بوتفليقة وكيف وصل إلى تلك الصورة، لا يسعنا إلا أن نستجدي فرنسا التي لديها كل الأسرار والملفات أن تخبرنا بواقع الحال. فرنسا التي منحها أهل الحكم في الجزائر كل شيء، وعندما فضحتهم بصورة صادمة حرّكوا آلتهم تتهمها بالخيانة والمؤامرة.
كاتب صحافي جزائري/”القدس العربي”