بقلم: هيثم شلبي
هناك عبارة مأثورة تكاد تكون من كلاسيكيات الدبلوماسية والعلوم السياسية مفادها: “الكراهية ليست سياسة”! وهي تقرر حقيقة بديهية يجب أن يلتزم بها من يتصدون للمهام الدبلوماسية، وإدارة العلاقات السياسية لبلد ما مع باقي دول العالم، حيث لا يمكن السماح للكراهية تجاه بلد أو شخص أو حادثة أو فصيل، الخ أن توجه سياستك نحوه! بل أن السياسة لا بد لها وأن تكون مفصولة عن لغة الحب والكراهية، وأن تكون المصالح الوطنية العليا هي حصريا من يوجهها! ولتوضيح العبارة أكثر، يكفي أن نذكّر بآخر من استشهدوا بها وفي أي سياق؛ حيث استخدمها منذ أيام أحد قادة جهاز الأمن الداخلي الصهيوني (الشاباك) السابقين، الجنرال عامي أيالون، في معرض انتقاده لحكومة رئيس الوزراء نتنياهو وحلفاؤه من قادة اليمين المتطرف (بن غفير وسموتريتش)، حيث اعتبر أن حكومة بلاده لا تمتلك أي سياسة تجاه الفلسطينيين، وأن ما يسمونها سياسة إسرائيلية تجاه الشعب المحتل، ما هي إلا أفعال تحركها في حقيقة الأمر مشاعر كراهية عميقة، وليس أكثر!!
مناسبة التذكير بهذه العبارة الكلاسيكية، هي شدة انطباقها على ما نسجله يوميا ومنذ قرابة سبعة عقود (منذ حرب الرمال عام 1963) من سلوكيات جزائرية، يسمونها سياسة، تجاه جارهم الغربي، المملكة المغربية. كراهية تشتد وتخبو دون أن تختفي تماما، حتى خلال أواخر عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، ومرحلة تأسيس اتحاد المغرب العربي، وإن كانت أقل حدة مما سبقها (مرحلة بومدين) وما تلاها (الحكم المباشر لجنرالات فرنسا برئاسة الجنرالين خالد نزار ومحمد مدين “توفيق”). ورغم حرب الرمال التي تركت جروحا غائرة في كبرياء جنرالات حرب التحرير، إلا أن بومدين وأتباعه كانوا ينجحون أحيانا في التخفيف من كراهيتهم أو تغطيتها، حتى تأتي مناسبة وتفجر مشاعر الكراهية هذه، كما حدث في أعقاب المسيرة الخضراء، التي يفترض أنها لا تعني جنرالات الجزائر من قريب أو بعيد، حيث تم طرد عشرات الآلاف من المغاربة في الجزائر، صبيحة عيد الأضحى في ديسمبر 1975، وكذا تأسيس جبهة البوليساريو، ودعم جميع محاولاتها لفصل الصحراء عن مغربها، دون أن تنجح. نفس الأمر شهدناه مع جنرالات فرنسا، الذين ينفذون الأوامر المباشرة لسيدهم في الإليزيه، والهادفة إلى محاولة “خنق” المغرب، بعزله عن محيطه الأفريقي، شمال وغرب القارة، وهو ما تجلى في إبقاء الحدود البرية الجزائرية المغربية مغلقة منذ ثلاثين سنة، وتقطيع سبل التواصل بين الشعبين الشقيقين، وبين باقي شعوب المغرب الكبير. ورغم المحاولات المختلفة للذين تناوبوا على جهاز الدبلوماسية الجزائرية، فإنهم لم ينجحوا من تبرير سلوكهم هذا وفق أي منطق سياسي أو دبلوماسي، ليبقى اسمه الحقيقي ماثلا للعيان: كراهية عميقة من جنرالات الجزائر لجيرانهم، شركاء الدم والكفاح، المغاربة.
ومع وصول النظام الحالي للجزائر تحت رئاسة الجنرال شنقريحة، وواجهته المدنية الرئيس تبون، إلى درجات متقدمة من الضعف والهوان، كان منطقيا أن تتصعد درجة كراهية النظام الجزائري وتتجاوز النظام المغربي، إلى كل ما هو مغربي أو يمت للمغرب بصلة، انعكاسا لما يعلمه الجميع عن كون الجنرال شنقريحة تجاوز مرحلة الكراهية بمراحل، ويكاد يكون حالة فريدة في هذا النظام (إضافة للجنرال جبار مهنا وبضعة جنرالات على شاكلته) الذي يمكن اعتباره “موتورا” في مشاعره تجاه المغرب والمغاربة. هذه الكراهية التي حاول وزير الخارجية الأسبق رمطان لعمامرة أن يلبسها لباسا سياسيا دون أن يحالفه النجاح، أصبحت المحدد الوحيد للسياسة الجزائرية تجاه المغرب، بعيدا ليس فقط عن محددات الجوار والأخوة، بل أبسط مبادئ المصلحة الوطنية العليا للجزائر والجزائريين! وهكذا، ونتيجة هذا الضعف الهيكلي للنظام الجزائري، وعدم القدرة على ترميمه وإحداث أي تغيير يذكر فيه، تجلت كراهية المغرب التي يسميها جنرالات الجزائر، مدنيين وعسكريين، سياسة، في محاولة تحقيق أي تفوق مهما كان تافها على المغرب في أي من الميادين، وصرف المليارات على جهود محاولة إفشال سعي المغرب في أي ساحة، حتى ولو لم تكن تعني الجزائر من قريب أو بعيد، وأصبح العداء للمغرب هو الموجه الأوحد لما يسمونه “سياسة جزائرية” دون أن تمتلك من السياسة إلا الاسم!!
ومما يفاقم من عظم جريمة الجنرالات، أنها لا تراعي روابط الدم والنسب والمصاهرة، ولا التقارب الطبيعي بين الشعبين الجارين الشقيقين، وتحديدا في غرب الجزائر وشرق المغرب. وأصبحت هذه الكراهية لكل ما هو مغربي أشبه بالرمال المتحركة، التي تغرق الجنرالات ونظامهم بشكل متدرج، دون أن يملكوا فرصة الخروج منها. ومع كل نجاح مغربي مبني على كثير من الجهد والتخطيط، يزداد سعار الجنرالات الجزائريين، ويجتهد إعلامهم إما إلى إنكار هذه الانتصارات أو التبخيس منها، وبطريقة مضحكة لا تجلب لهم سوى مزيد من سخرية المواطنين الجزائريين، حيث أصبح اسم المغرب محذورا حتى في كثير من نشرات الأخبار في مختلف وسائل الإعلام الجزائرية، ولو كان الخبر رياضيا!
وإذا كان هذا هو تشخيص المرض، فما هو العلاج بشكل مختصر؟ بكلمات بسيطة، وبعيدا عن شعارات الأخوة ووحدة التاريخ والمصير، ومن منطق المصلحة الوطنية الجزائرية المحضة، يجب أن يصل جنرالات الجزائر إلى خلاصة مفادها، أن المتضرر الأكبر من سلوكياتهم هو الشعب الجزائري، وأن نار كراهيتهم لا يطال المغاربة لهيبها، بل يكتوي بها مواطنو الجزائري دون سواهم؛ وأن تصحيح المسار المعطل لوحدة المغرب الكبير، واستئناف التواصل بين شعوب المنطقة، بفتح الحدود مع المغرب، هو مصلحة للنظام الجزائري المأزوم قبل غيره، وربما تكون الفرصة الوحيدة التي تحول بينه وبين الغرق في أتون ثورة جزائرية حارقة!!
كخلاصة، ورغم صعوبة تصور أي تخفيض في منسوب الكراهية من قبل نظام جنرالات فرنسا تجاه المغرب، طالما بقي شنقريحة ممسكا بزمامه، فإن مراجعة السياسة الجزائرية تجاه المغرب هي ضرورة أكثر من ملحة، ولمصلحة النظام والشعب الجزائريين أساسا. أما استمرار تغذية هذه الكراهية، التي هي نتاج أمراض الجنرالات المتحكمين، وأوامر السادة الفرنسيين، وتسمية كل ذلك سياسة، فلن يفيد هؤلاء الجنرالات في شيء، وسيعجل في تقريب نهايتهم المحتومة مع تراكم الفشل لجميع مساعيهم في كل المجالات، فهل ينصتون لصوت مصلحتهم بالأساس، أم أن نار كراهيتهم أحرقت كل أثر لعقل سليم أو مشاعر إنسانية؟!