بقلم: طالع السعود الأطلسي
الجارة الشمالية للمغرب، إسبانيا، تضع المغربَ في مركز علاقاتها الخارجية… وزير خارجيتها، وبعده وزير الداخلية، في أول زيارة لهما، خارج الاتحاد الأوروبي، بعد تعيين الحكومة الجديدة، حلاّ بالمغرب. وَصَلاه على جناح الانْشراح وغادراه على إيقاع الارتياح. الحديث، في الحالتيْن، هُنا في الرّباط، وبيْن الطرفين، طاف حول مَجَالات التعاوُن، المُتعدِّدة والعميقة والواعدة، بنفس الصّداقة المُعبَّأة بالتفاهم الواعية بحدودها الواقعية أو بوَاقع حدودها، في السياق الجيو-سياسي الّذي يؤطرها.
العلاقات مع المغرب وضعتها الدولة الاسبانية، والحكومة في قلْبها، ضمن حاجات وتدافُعات وضْعِها الداخلي… هي موضوع التفاعل بيْن السياستيْن الداخلية والخارجية لإسبانيا… تشكيل الحكومة الاسبانية الجديدة كانت فيه العلاقات الاسبانية مع المغرب، ومن مَعْبَر قضية الصحراء المغربية، حاضرة في توَافُقات التحالف الحزبي الذي يحملها، وفي تفاهُماته… من مُنْطلق المصلحة الاسبانية، الاقتصادية، الاجتماعية والأمْنية… وقد نجح بدرو سانشيس، رئيس الحكومة، في “كفاحه” من أجل إقناع حُلَفائه بأهمية أن تملأ إسبانيا مُستقبلها بالكثير من المغرب، بكل ما في المغرب من طاقات ومقدّرات دافعة له نحو مستقبل زاخر بمؤشرات التقدم. إنه التدبير الاشتراكي للشأن الاسباني، المسكون بالحساسية الوطنية…
المغرب فتح لاسبانيا كلَّ المعابر إليه، أيضا وأصلا، بالبُعد الوطني الذي نسج عليه مشروعه الإصلاحي والتحديثي، الاستراتيجي والمُتدرج، البعيد المدى والآني، والمتحقق في سياساته الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والأمنية، تلك الخاصة بداخله وتلك التي بها يُدبِّر علاقاته الخارجية، على أساس طلب المنفعة له والتنافع مع أصدقائه… وذلك ما أفْهمَه لكل أطراف علاقاته الخارجية وفي كل دوائرها… وجنى من ذلك فهْمَها وتفهُّمَها… وتلقّى منْها هذا الاستعداد من جهة، عديد دول إفريقية، أوروبية، آسيوية وأمريكية للانخراط معه في شراكات نافعة اقتصاديا أوّلا ومفيدة سياسيا ثانيا، ومن قبل ومن بعد تُسهم في مواجهة التحديات الضاغطة الآن والمحتملة غدا، الاقتصادية، الاجتماعية، المناخية والأمنية… وإسبانيا من بين تلك الدول، ولها مع المغرب موقع مُميّز… وهي مُتحمِّسة للعلاقات معه… علاقات بصيغتها الجديدة وبمفاهيمها المُغايرة لماضيها، وقد اعتبرت وقدّرت مُمكنات المغرب الذاتية ما تتيحه انفتاحاته الديبلوماسية، إفريقيا وعربيا وحتى في أوروبا…
لعل إمانويل ماكرون رئيس الدولة الفرنسية يتابع التطوُّر النوعي للعلاقات المغربية الاسبانية، وتوسُّعها في الفضاءات التقليدية للعلاقات المغربية الفرنسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والأمنية… ويُلاحظ التحوُّلات الجوهرية التي طالت المغرب والتي استقدمت إسبانيا له وتهدِّد بإبعاد فرنسا عنْه… ولعلّ في فريق عمله مَن يُشير عليه بإطلاق ديناميكية جديدة في العلاقات الفرنسية المغربية، وهو لا يَعتبر مشورته، لأنه على ما يبدو يُفرمِل نفسه بتصوُّرات ومُثبِّطات تُعيقه من ربح المستقبل مع المغرب… أولُها رهن المغرب ضمن سياسة مُتوهِّمة لتوازن علاقات فرنسا بين المغرب والجزائر… والحاصل أن ماكرون يتردد في التجاوب مع ملتمسات السيد تبون، الرئيس المعلن للجزائر، بزيارة باريس… وهو “يرهق” نفسه بتحمُّل بُكائيات السيد تبون… وفي الآن نفسه يتردد في فتح ممر ملكي له إلى المغرب، عبر بوابة الصحراء المغربية… ويُرهق نفسه ببحثه، المُضني والمستحيل، عن معبَر إلى القصر الملكي المغربي، دون المرور من مسالك صحراء المغرب… ما يقوله عن مقترح “الحكم الذاتي” المغربي مُهم، ومشكور عليه، غير أن التميُّز الفرنسي المطلوب ضمن الثقافة الدولية لحل النزاع حول الصحراء المغربية، والتي كرَّستها قرارات مجلس الأمن الأممي، وبمساهمة فرنسية، بات يتطلب من فرنسا بالذات الانْتقال إلى أن تستنطق تاريخها الاستعماري في المنطقة المغاربية، ومنه تُجهر بما تنطق به الحقائق الساكنة في وثائق ذلك التاريخ… أن الصحراء مَغربية… وتنضم بذلك إلى من سبقها من نوع الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا وإسبانيا، ودول أوربية أخرى، فضلا عن عدة دول إفريقية، عربية ومن أمريكا الجنوبية… وبذلك تريح “ضميرها”، تكسب المستقبل مع المغرب وتتحرر من وهْم توازن مغاربي مستحيل… واضح، أنها لن تخسر القيادة الجزائرية إن هي جاوَزتها، خاصة وأن تلك القيادة ضيقت عليها، مجّانا، مساحات تحرُّكها الدولي بعُدوانيتها ضد المغرب، ما يجعلها تُعاكس التيار العالمي المحتضن للمغرب… وله من تجربة تلك القيادة مع إسبانيا مؤشر مفيد… القيادة إياها “زَعَلَت” من الحكومة الإسبانية حين أعلنت انحيازها للمغرب، استدعت سفيرها في إسبانيا “للتشاور”… وبعد أشهر قليلة أعادته إلى موقعه من تلقاء قرارها… حين لمست أن “ضغوطها” الغازية وحملاتها الإعلامية لم تُعرها الحكومة الإسبانية أقل اهتمام… كانت هَرَجًا ومَرَجًا وحسب… نفس القيادة تتسول اليوم في الشارع الديبلوماسي اهتماما إسبانيا، كأن إسبانيا لم تغضبها قط… كما سبق لتلك القيادة أن فعلت مع فرنسا حين استدعت سفيرها وأعادته إلى باريس دون أن تتلقى ما يبرر عودة السفير…
زيارة تبون إلى باريس المؤجلة لأزيد من سنة، فيما يُشبه التلاعب بأمْنية الرئيس الجزائري، والتي يأملها داعما له في حملة الانتخابات الرئاسية الجزائرية، لنهاية السنة الجارية… ولو أنه، إذا رشحه الجيش، لن يكون في حاجة إلى حملة دعائية أصلا. لكي يَنْجح… وذلك ما ثبت مع الرئيس بوتفليقة، والذي “نجح” رئيسا، وقد كان مُقعدا، ولم يرأس تجمُّعا انتخابيا واحدا ولم يُسمع له صوت بأية وسيلة… وناب عنه في استمالة الناخبين “همْسُ” قيادة الجيش و”بركاتها”… اتّضح أن ذلك التوازن المتوهَّم، لن يُرضي المغرب، ويُصعِّب على ماكرون تحقيق “آماله” باستعادة سابق “امتيازات” موقع فرنسا في المغرب…
المغرب له مشروع نهضوي شامل، يقوده الملك محمد السادس… وضمن ذلك المشروع أوراش عملاقة تطال روافع تنموية لتسري في البُنى الاقتصادية، الاجتماعية وتخترقُها، أو تقوم على رؤْية تحديثية، تنطلق من مصلحة الوطن لتعود إليه… ولذلك هو مشروع واقعي في تخطيطه وفي توقعاته… ويعبئ كل طاقات الوطن لجلب المنفعة له… وواقعيتُه تمتد إلى تدبير علاقاته الخارجية… ديبلوماسيته امتداد لوطنيته… تستحضر مصلحة الوطن، وهي واقعية ومنفتحة… ما أمّن للمغرب هذا الموقع الديبلوماسي المرموق والمسموع عالميا، وهو فيه مطلوب للتعاون الثنائي والمتعدد الأطراف، ودون اصْطفاف أو انحشار في تحالفات مغلقة أو منجرة إلى المشاحنات والصراعات الدولية… لا يسلم قيادته ولا قراره الوطني المستقل إلى دولة أو إلى حلف دولي… هذا ما لمَسته إسبانيا، على سبيل التوضيح، فأقدمت على تعميق علاقاتها مع المغرب… تتبادل معه المنافع وتُنتجان الفائدة لهما معا… وهذا ما تعرفه فرنسا، تلمسه وخبرته… غير أن ماكرون لا يُطيق أن يرى أمامه مغربا مالكا لقراره… والمغربُ لا يستعجل ماكرون في أن يُعيد النظر في منطلقات تعاونه مع المغرب. المغرب يجتهد ويتقدم، وله خيارات في العلاقات الديبلوماسية واسعة، ومتى ما استحضر السيد ماكرون المصلحة الوطنية لفرنسا وارتأى أن يلتحق بالمسار المغربي لتستفيد فرنسا… فسيكون مُرحبا به.