بقلم: طالع سعود الأطلسي
يحدُث اليوم في فرنسا، وفي الدولة الفرنسية خاصّة ما هو غير مفهوم، لأنه غير مألوف وغير مقبول. دولة ذلك البلد عريقةٌ، بل إن دستورها يُعتمد مرجعا لدساتير دول عديدة في العالم، وتاريخها أيضا. إنها دولة الأنوار الفكرية والسياسية. إنّها فرنسا بعاصمتها باريس، مدينة الأنوار، وفي خلفية أساساتها مبادئ الثورة الفرنسية. تبدو الدولة الفرنسية اليوم كما لو أنها “ضيّعت الشّمال”، وضيعت رصيدها وتُراثها ومرجعيتها المؤسّساتية في تشكّل الدول الحديثة. ومن مواصفات الدولة الحديث رزانتها وحصانة قراراتها من التسرُّع والعبثِ، فضلا عن احترامها لتقاليد مرعيّة في علاقات الدولة مع شعبها ومع دول علاقاتها الخارجية.
لعل الدولة الفرنسية قرّرت، ودون الإعلان عن ذلك، خُطّة مدقّقة المراحل، وللدِّقة مُتسلسلة الأخطاء، مع المغرب، وبما لا يتناسب مع ما نحمله من صورة راقية عن الدولة الفرنسية. إذ لا يُمكن تفسيرُ التّخبُّط وسوء التقدير في سلوكيات الدولة الفرنسية إزاء المغرب، بغيْر ذلك.. لنْ يصدِّق عاقل، وبالأحرى مُحلِّلٌ سياسي، أن تتوالى تلك الأخطاء في سياق مُجرد زلَّات وأخطاء عفوية.
سبق وكتبتُ في مقال سابق أن السيد إيمانويل ماكرون، منتوج بنك روتشيلد، لإدارة تصدُّعات وشروخ المجتمع الفرنسي، وجد نفسه وبمنهج مصرفي غَلط، يتعاطى مع القضايا الخارجية للدّولة الفرنسية، بمنطق الرِّبح الآني والفائدة الفوْرية.. للأسف، لم أخطئ فيما ذهبتُ إليه. ولي في تصرُّفات الدولة الفرنسية ما يُعزِّز ظنّي.
هل يُعقل في دولة محترمة أن يُعلَن عن زيارة رئيس دولة إلى دولة أخرى دون موَافقات وترتيبات وإجراءات واتِّفاقات على بروتوكولات مع تلك الدولة. لقد حدث ذلك مع الدولة الفرنسية، عبر إعلان وزيرة الخارجية الفرنسية عن زيارة قريبة للرئيس الفرنسي السيد إيمانويل ماكرون إلى المغرب، ودون موافقة المغرب وتعبيره عن استعداده لاستقباله، وخاصة استقبال العاهل المغربي الملك محمد السادس لرئيس الدولة الفرنسية، بكل ما يستدعيه ذلك من ترتيبات بروتوكولية وسياسية، تُحسب وتعد بالإشارات وبالمليمترات وبالمفردات وبالمعاني.
مصدرٌ رسمي مغربي، عبر وكالة الأنباء المغربية، سفّه البلاغ الفرنسي، بنفي أيّ إعداد لزيارة السيد ماكرون للمغرب… واسْتغرب المصدر المغربيُّ “مبادرة” الوزيرة الفرنسية بالإعلان عن “الزيارة غير المبرمجة”. هل معنى هذا أن الرئاسة الفرنسية تستعجل “مُصالحة” مع المغرب، بزيارة السيد ماكرون للرباط، ولو غير مبرمجة. ولنقل، مُتوَسَّلة ومرغوبة، عبر الهواء ووسائط الإعلام، دون اللجوء إلى المساطر الدبلوماسية المتعارف عليها.
قبل هذه الزَّلَّة الدبلوماسية توَجَّه السيد إيمانويل ماكرون في شريط فيديو إلى المغاربة مباشرة، لكأنهم مجرد سكان مُقاطعة فرنسية تابعة لسيادته، بخطاب لرَفْع معنوياتهم. وربما لم يقل أحدٌ للسيد الرئيس إن للمغاربة ملكا، وهو ملك بجدارة ملكية تاريخية، وإن أولئك المغاربة لا يحتفون ولا يقدرون ولا يعتبرون إلا خطابات وتوجيهات ملكهم المسجل اسمه، ناصعا، في التاريخ، محمد السادس. تلك كانت سَقْطة سياسية أخرى لرئيس دولة فرنسا إزاء المغرب وملكه.
ستحتاج الدولة الفرنسية إلى مجهودات كبُرى لتدقيق صورة المغرب، في حقيقتها وفي ممكناتها، هي غير ما في الذهنية الاستعمارية العالقة، بمرجعية قرارها السياسي.
المغرب هو مغايرٌ لما هو في الأرشيف الاستعماري الفرنسي. مُستقل وقوي ومفيد لذاته، وكفيل بها. وبتلك المقوِّمات هو نافع لجواره ولعلاقاته وللمسعى العالمي للتقدم والسلامِ. وللأسف الدولة الفرنسية بتخبُّط سلوكها السياسي، واضح أنها تُضيّع الجنوب الذي كان لها فيه نفوذ، بعد أن “ضيعت الشمال”، في اشتباكات أوضاعها الداخلية وأيضا في تعقيدات علاقاتها الخارجية. ولا أجرؤ على التفاخر بأن الدولة المغربية بثباتها تربك دولة فرنسا في محاولاتها امتلاك بوصلة تاريخية لسياساتها الخارجية.
المصدر : صحيفة العرب