الثابت اليوم في تونس أن مسار العدالة الانتقالية مسار سياسي بالأساس، وليس مسارا قضائيا كما يفترض أن يكون من أجل تركيز العدالة التي تمهد للمصالحة. فرغم أن هيئة الحقيقة والكرامة كانت مطلوبة بإلحاح من الرأي العام في تونس، فإن انحراف مسار العدالة الانتقالية إلى هذا المسار السياسي كان مصاحبا لنشأة هذه الهيئة الدستورية منذ البداية ولاختيار رئيستها وأعضائها.
المزيد: تونس: استرجاع الأموال المنهوبة أم استكمال مسار العدالة الانتقالية؟
فطريقة تكوّن هيئة الحقيقة والكرامة خلقت جدلا سياسيا ومدنيا لم ينته، إذ أن الشرط الرئيسي الذي كان يجب أن يتوفر في أعضاء الهيئة هو الاستقلالية، بينما رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، لم يكن هناك إجماع على استقلاليتها بل كانت هناك علامات كثيرة على اقترابها من حركة النهضة ومن رئيس الجمهورية السابق المؤقت منصف المرزوقي. ولهذا وجدت بن سدرين الدعم الكامل من أغلبية الترويكا في المجلس التأسيسي بقيادة حركة النهضة، وتم فرضها فرضا رئيسة لهذه الهيئة رغم أنها لا تنتمي لسلك القضاء أصلا.
المزيد: هيئة الحقيقة والكرامة التونسية تستمع لضحايا الانتهاكات الحقوقية
ولم يكن الجدل حول رئيسة الهيئة فقط بل حول بقية أعضائها أيضا، إذ لم تضمّ بينهم اختصاصات ضرورية يحتاج إليها عملها، كعلماء الاجتماع وعلماء النفس والمختصين في الأرشيف والتوثيق والمؤرخين والصحفيين الاستقصائيين، وهو ما سيصيب عملها بالشلل وسيجعلها هيئة شكلية ضعيفة لا تقدر على إنجاز مهامها بالشكل الأمثل، وتبقى دائما في حاجة إلى السلطة القائمة، ويسهل التأثير فيها وتوجيهها من الخارج.
طبيعة تشكّل هيئة الحقيقة والكرامة وذوات أعضائها جعلتها فاقدة للاستقلالية السياسية كما قلنا وللجدارة والكفاءة الفنية أيضا. وهو ما جعلها تفتقر إلى الدعم الوطني وإلى حزام مدني كانت تحتاج إليه بشدّة لدعمها. ومما زاد في إنهاك هذه الهيئة الدستورية حتى قبل أن تشرع في تلقي شكاوى المواطنين في ديسمبر 2014، هو تعرضها لسيل من الاستقالات من قبل أعضائها مما أصابها بشلل شبه كامل وجعلها هيئة صورية لا أكثر. ولهذا لما حاولت الهيئة الحصول على أرشيف الرئاسة لم تصمد أمام الحملة الإعلامية التي كان قد خاضها ضدها الحزب الأغلبي الحاكم الجديد نداء تونس ورئيسه الباجي قائد السبسي.
هيئة الحقيقة والكرامة هيئة دستورية تشكلت في يناير 2014 وشرعت في العمل في يونيو 2014 ولم تحصل إلا على ثلث ميزانيتها. وليس لها إلا مقرها الرئيسي في العاصمة تونس رغم أن قانونها ينص على أن تكون لها مقرات جهوية لتكون قريبة من المواطن. وبدأت في تلقّي شكاوى المواطنين في ديسمبر 2014 لتدوم هذه العملية سنة كاملة يمكن أن تضاف إليها ستة أشهر إذا رأت الهيئة ذلك.
وأول ما بدأت به الهيئة عملها كان أرشيف رئاسة الجمهورية في الأسبوع الأخير من حكم الرئيس السابق المؤقت منصف المرزوقي. وقد أرسلت الهيئة قافلة من الشاحنات لنقل هذا الأرشيف وجعله تحت تصرفها. ولكن هذه العملية أثارت جدلا سياسيا وإعلاميا واسعا. واعترض على ذلك رئيس الجمهورية المنتخب، الباجي قايد السبسي، الذي لم يكن قد استلم مهامه بعد ولم يتحول للإقامة في قصر الرئاسة بقرطاج. ورأى في العملية تصرفا غير بريء للتحوز على الأرشيف، بينما اعتبرت الهيئة أن الرئيس الجديد وديوانه يرفضان ذلك خوفا من إفشاء معلومات تهمهم. واضطر الديوان الرئاسي لمنصف المرزوقي إلى رفض تمكين الهيئة من أرشيف الرئاسة حتى يستلم الديوان الجديد.
المنحى السياسي لمسار العدالة الانتقالية في تونس يستمر اليوم بعد انتخابات 2014 مع السلطة الجديدة لا سيما رئاسة الجمهورية ولكن ليس في تناسق وانسجام، وإنما في تعارض وتواز لا سيما بعد مشروع قانون “المصالحة الوطنية” الذي صدر عن رئاسة الجمهورية. وفي ذلك استغلال لضعف الهيئة الذي بينّاه أعلاه، ولتخلّي حركة النهضة عن دعمها ودعم رئيستها التزاما بتحالفها الكامل في الحكم مع حركة نداء تونس.
ولما فقدت الهيئة حليفها وداعمها السياسي شعرت بقيمة الحزام المدني الذي كانت تفتقر إليه. ولهذا تحاول اليوم أن تتدارك حاجتها بعقدها جملة من الاجتماعات والندوات بالاشتراك مع المجتمع المدني، وأساسا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، خاصة بعد مشروع قانون المصالحة المذكور والذي عرضه رئيس الجمهورية على الحكومة ووافقت عليه دون العودة إلى الهيئة ولا استشارتها ولا التنسيق معها.
هيئة الحقيقة والكرامة تعقد العديد من الندوات لانتقاد مشروع قانون المصالحة المقدّم من قبل رئيس الجمهورية. فهي لا تنكر على الرئاسة حقها في العمل على تحقيق المصالحة بين التونسيين ولا صلاحيتها الدستورية في المبادرة التشريعية. ولكنها تنبه إلى أن مشروع قانون المصالحة المقدم من قبل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بشكله وصيغته الحالية يعد صفقة مع الفاسدين وتبييضا للفساد وإعادة سافرة لأعوان النظام القديم وتمكينهم مما سرقوه واستولوا عليه من الشعب التونسي دون مساءلة ولا محاسبة ولا حتى اعتذار.
أما حزب نداء تونس الحاكم فيقول عن هيئة الحقيقة والكرامة إنها مشكَّلة على المقاس لاستكمال مشروع العفو التشريعي العام الذي استفاد منه الإسلاميون، بل وحتى المتشددون والأصوليون والإرهابيون الذين عاد الكثير منهم لحمل السلاح ضد الدولة أو خارج الحدود. بينما تونس لم تستفد منه. ورئيس الجمهورية يرى في المحاسبة نوعا من الانتقام لن يخدم تونس، فيما ترى الهيئة في المحاسبة الخطوة الأولى الضرورية لإقامة العدالة أساس العمران.
الخلاصة أن هذا التجاذب السياسي بين هيئة الحقيقة والكرامة وبين رئاسة الجمهورية سيعطل مطلب الشعب التونسي في العدالة الانتقالية الشرط الرئيسي للسلم المدنية والاستقرار الاجتماعي. ولا بد من الإشارة إلى أن قانون المصالحة الذي اقترحه رئيس الجمهورية يلاقي رفضا واسعا من قبل أحزاب المعارضة، ومن قبل المجتمع المدني والمنظمات الكبرى وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل.
ففي الوقت الذي ترفع فيه الحكومة التونسية سوط العقاب عاليا بكل حزم أمام الاحتجاجات الاجتماعية المطلبية، وتسرع في اقتطاع أيام الإضراب من أجور المضربين كما حصل في قطاعيْ التربية والصحة، فإنها تظهر فيضا من التساهل والغفران مع الفاسدين الذين خربوا اقتصاد تونس ومجتمعها. إن هذا الحيف والانحياز، غير المبرر شعبيا، للفاسدين والمخالفين للقانون وللمعتدين على الشعب التونسي لا يمثل سوى استدراك للثورة التونسية والتفاف على شعاراتها ومطالبها الرئيسية التي يفترض في السلطة المنتخبة الالتزام بتحقيقها. وهو ما ينمّي منسوب الحقد الاجتماعي الذي قد يؤدّي إلى ثورة ثانية.
*باحث وسياسي تونسي/”العرب”