وقع الرئيس الأميركي باراك أوباما بتناقض كبير في الخطاب الذي ألقاه في الجامعة الأميركيّة في واشنطن والذي تناول فيه بإسهاب الاتفاق النووي الإيراني فهو إذ أعلن أن الاتفاق هو “أفضل خيار للاستقرار في الشرق الأوسط” أقر في الوقت ذاته أن قسماً من الأموال التي ستستعيدها طهران بعد رفع العقوبات سيستخدم لتمويل “أنشطة إرهابيّة”!
وفقاً لهذه النظريّة الأميركيّة يُستخلص بأن تمويل أنشطة إرهابيّة يُساهم في تعزيز الإستقرار في الشرق الأوسط! وتُذكر هذه الخلاصة الغريبة والمتناقضة بنتيجة الإجتماعات المكثفة التي عقدها وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري في الخليج مع نظرائه من مجلس التعاون الخليجي بحضور وزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف حيث أن الولايات المتحدة “روّجت” للاتفاق النووي ومفاعيله الايجابيّة على مستوى الاستقرار في المنطقة وعملت في الوقت ذاته على البحث في صفقاتٍ لتسريع تسليح دول الخليج العربي! فإذا كان الاتفاق يحد من مخاطر اندلاع الحرب في المنطقة لماذا تسريع وتكثيف التسليح؟
المزيد: واشنطن نحو طهران.. والرياض نحو موسكو!
وذهب الرئيس الأميركي أبعد من ذلك في سياق سعيه الحثيث لبناء رأي عام مؤيد للإتفاق في محاولة منه للضغط على الكونغرس الذي يملك وقتاً يمتد لغاية السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2015 للموافقة عليه أو رفضه، فهو ربط إقرار الاتفاق بسمعة أميركا ومصداقيتها حول العالم قائلاً: “إذا أطاح الكونغرس بالاتفاق، فسنفقد أكثر من مجرد القيود على برنامح إيران النووي أو العقوبات التي فرضناها بدقة، وسنفقد شيئاً أكثر قيمة؛ المصداقيّة الأميركيّة قائدة للديبلوماسيّة ومرتكزاً للنظام العالمي”.
ولكن، مهلاً! ماذا عن المصداقيّة الأميركيّة في تغاضيها المستمر عن الإحتلال الإسرائيلي منذ عشرات السنين وإمتناعها عن ممارسة الحد الأدنى من الضغط على إسرائيل للإعتراف بالحقوق الوطنيّة المشروعة للشعب الفلسطيني الذي يناضل منذ العام 1948 لقيام دولته المستقلة وقدّمت بعض قياداته التنازلات تلو التنازلات ووافقت على الحد الأدنى من المطالب فقوبلت بمزيد من التوسع الاستيطاني وجدار العزل والقتل والتهجير وتغيير الواقع الديموغرافي والاجتماعي من قبل السلطات الإسرائيلية فضلاً طبعاً عن شن الحروب والغارات والقصف المستمر وتهويد مدينة القدس!
وماذا عن المصداقيّة الأميركيّة التي تشوهت بشكل غير مسبوق من خلال تغاضيها عن الحقوق المشروعة للشعب السوري الذي خرج ينادي بالتغيير السلمي والديمقراطي وجُوبه بالعنف والقتل والقصف بالبراميل المتفجرة وحتى بالسلاح الكيماوي الذي كان تعهد الرئيس الأميركي بعدم التهاون بأي شكل من الأشكال في حال إستخدامه وإذا به يقضي الأمر بصفقة مع موسكو لسحب السلاح الكيماوي من سوريا مقدماً خدمة مجانية لم تكن في الحسبان لإسرائيل! وهذه بالمناسبة خدمة إضافيّة قدمها بدوره النظام السوري لإسرائيل وهو الذي حافظ على هدوء جبهاته المحتلة في الجولان لأكثر من أربعين عاماً ولم يسمح بطلقة رصاص واحدة تنطلق في إتجاه الإحتلال!
وماذا عن المصداقيّة الأميركيّة حيال العراق الذي قررت غزوه في العام 2003 بناءً لذريعة غير مؤكدة وهي وجود أسلحة الدمار الشامل التي تبيّن لاحقاً أنها لم تكن صحيحة (وهذا الموقف لا يصب حتماً في إطار الدفاع عن الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي كان رمزاً من رموز القمع والديكتاتوريّة)، وهي التي إتخذت قراراً مشبوهاً وغير مفهوم بحل الجيش العراقي من قبل الحاكم المدني للعراق آنذاك بول بريمر في العام 2003 وهو من أقدم الجيوش العربيّة وقد تأسس أثناء الإنتداب البريطاني للعراق سنة 1921، وغنيٌ عن القول أن هذا القرار الأرعن كان مدخلاً حتميّاً لبث الفوضى في العراق التي إتخذت أشكالاً عديدة في الحقبات اللاحقة.
والأمثلة تتوالى في مسألة المصداقيّة الدوليّة لواشنطن. فهل هناك إحتمال حدوث أي تحولات في السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط تلافياً لمزيد من الخسائر والكوارث العسكريّة والأمنيّة في المنطقة العربيّة أم أن هذه الفوضى تصب في مصلحة أميركا التي تبحث في سبل إطالة أمدها؟
*كاتب صحفي/مجلة “الخليج”