بعيدا عن الفرز السياسي الذي أنتجته أحداث 17 فبراير في ليبيا، بين مؤيد للانتفاضة ومناصر لأهدافها، وبين داعم للنظام السابق ومدافع عن أيديولوجية حكمه، فإنّ مقاربة الأحكام الصادرة في حقّ مجموعة من أركان نظام القذافي مطلع الأسبوع الجاري لا بدّ أن تقرأ في سياق استحقاقات ما بعد “الثورة الفاشلة”، ومقتضيات ما قبل “الدولة الغائبة”. ذلك أنّ الحديث اليوم عن محاكمات ثورية مجانب للصواب في ليبيا على الأقل التي باتت ساحة حرب ومكاسرة محلية، وملعب لكافة التدخلات الإقليمية والدولية ضاعت بمقتضاها “كينونة الثورة”، كما أنّ التذرع بمبادئ “السيادة” و“الحقّ في التسيير الداخلي للشؤون الليبية” ليس سوى ضرب من ضروب إخفاء حقيقة أنّ “انتفاضة 17 فبراير” قايضت “الثورة” بـ“الدولة”، واستبدلت “التأييد العالمي” بكافة حقوق الوطن على الشعب.
المزيد: ليبيا.. والنموذج المفقود!!
لذا فعلى الناظر إلى الأحكام القضائية القاسية في حقّ أركان نظام القذافي أن يقرأها من زاوية “وظيفتها” السياسية والتاريخية للمصالحة الوطنية التي تقتضي شيئين على الأقلّ، الأمر الأوّل يكمن في المحاسبة السياسية والقضائية والقانونية والتاريخية على الأخطاء والجرائم السياسية المقترفة في حق ليبيا والليبيين منذ 1969 إلى 2011، والأمر الثاني يتمثل في ردّ الاعتبار الأخلاقي والسياسي والمادي لكافة الضحايا دون سقوط في التشفي أو انحدار إلى هوّة “الانتقاء أو الانتقام”.
وفي المحصلة، تقف الأحكام بالإعدام على سيف الإسلام القذافي والبغدادي المحمودي وعبدالله السنوسي حجرة عثرة في سبيل إقرار المصالحة الليبية التي تسعى كافة القوى الوطنية لإتمامها، فلا هي – أي الأحكام – قادرة على أن تكون صفحة من صفحات المحاسبة باعتبار أنّ المحكمة لا تتوفر لديها الشرعية القانونية والإدارية اللازمة للبتّ في هكذا ملفّ، كما أنّها ستحفر عميقا في جرح “قبائلي” وستزيد من هوّة التباين الليبي، بعد أن اعتبرت أكثر القراءات رصدا للمشهد الليبي أنّ الوحدة ستلتئم ضدّ الخطر الداعشي وضدّ مخاطر الانتقام والتشفي التي تهدّد الوطن بمزيد من التشرذم والفرقة ومن مأسسة الانقسام.
المزيد: منظمات حقوقية تصف محاكمة سيف الإسلام بالغير العادلة
وهي كلّها مقدمات تشير إلى أنّ “القضاء” في طرابلس غير مستقلّ عن “العقل” السياسي الاستئصالي في ليبيا، والساعي إلى الاجتثاث والإقصاء والتمركز حول “الذات” الضيقة دون بحث عن تشاركية في الوطن أو للوطن.
ذلك أنّ لا أحد يتصوّر عودة أركان القذافي إلى السلطة في ليبيا، ليس لأنهم لا يريدون أو لا يبحثون عن دور سياسي جديد في زمن “حكم الميليشيات”، ولكن لأنّهم أضاعوا فرصة دخول التاريخ في 2011 وأفلتت من أياديهم أيضا فرصة الهروب من لعنة “الماضي” التي سوف تحول دون إعادة تأهيلهم السياسي والاعتباري، بيد أنّ “إصرار” حكام طرابلس على تقديم نماذج غير أخلاقية في الحكم والسياسة والقضاء والعلاقات الدبلوماسية يعطي لحكام الأمس شرعيّة اجتماعية كامنة في أنهم على سوءاتهم إلا أنهم أقل سوءا من حكام اليوم.
لم يعط إعدام الحكام القدامى شرعيّة للحكام الجدد، ولم يمنع أيضا جري تيارات جارفة من التأييد والحنين للقديم تحت عناوين “الأسى والأسف والنقمة” من عقلية الدماء والدمار الراسخة في عقول الحكام الجدد وأنفسهم.
كان إعدام صدام حسين إيذانا بـ”ثورة اجتماعية سياسية” ضدّ الطائفية وعلى التدخل الإيراني في العراق، وفجّر تأييدا عربيا كاملا لم يحصل لـ”بعث العراق” حتى في أعتى أيام الحصار الجائر على العراق 1991 و2003.
كما كانت تصفية معمر القذافي بتلك الطريقة الهجينة والبربرية إيذانا بـ”النهاية” الرمزية للثورة الليبية، وإيذانا بدخول ليبيا عصر الميليشيات المسلحة.
على الحكماء في ليبيا أن يمنعوا تنفيذ حكم الإعدام ضدّ أركان نظام القذافي، أولا لأجل ليبيا لا لأعوان القذافي، وثانيا للحيلولة دون أي نتيجة عكسية لعمليات التصفية، وثالثا لإنجاح مسار التسوية والمصالحة، ورابعا لترميم الصفوف لحرب الإرهاب والدواعش، وخامسا لكتابة “تاريخ” ليبيا بأقل فاتورة من الدماء التي تسيل أنهارا منذ أكثر من أربع سنوات.
* كاتب ومحلل سياسي تونسي/”العرب”