عادة ما تطلق عبارة “البطة العرجاء” على الرؤساء الأميركيين الذين يفقدون الغالبية النيابية في الكونغرس ومجلس النواب فيتحولوّن إلى قادة دون قيادة ومسؤولين بلا سلطات تقريرية، بعد أن تصبح السلطة التنفيذية وجها لوجه مع السلطة التشريعية فتتعطل الحياة السياسية لتعيش أميركا بذلك مرحلة تسمّى بـ”البطة العرجاء”.
ولكن مع انحباس الحياة السياسية والعملية الديمقراطية تحت نير المكاسرة الحزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين، تبقى مؤسسات الدولة والإدارة المركزية واللامركزية في عملها الدؤوب وفي صيرورة الإنتاج والإبداع دون تأثر عضوي بالحالة السياسية، وقد تستمر البطة العرجاء لسنوات عديدة معبرّة عن مشهديّة التضادّ والتناقض الإستراتيجي، ولكن لا ينسحب هذا العرج على الدولة ومؤسساتها الرسمية.
الشاهد في هذا المفصل التحليلي أنّ معظم الدول العربية التي تخوض حروب وجود ضدّ الإرهاب تعيش مرحلة “الدولة العرجاء”، حيث ينسحب الانسداد والاحتقان وعدم التنسيق والتباين والتنافر على كافة هياكل الدولة التي تصبح “دولة عاجزة” عن الديمومة والاستمرار. “الدولة العرجاء” قد تكون المقولة السياسية الأكثر تعبيرا عن حالة المعضلة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية التي تعرفها جلّ دول “الربيع العربي”.
فتونس التي شهدت مؤخرا عمليات إرهابية استهدفت عمقها الحيوي والإستراتيجي، ألا وهو السياحة، تعيش حالة من التباين والتنافر المقيت بين مطلبية اجتماعية واقتصادية ملحة وعاجلة تقودها النقابات العمالية، وبين عجز حقيقي عن خلق “موارد الثروة” وعن الاستجابة لاستحقاقات 600 ألف شاب عاطل عن العمل، الأمر الذي يفسّر اعتماد كافة حكومات ما بعد الربيع العربي سياسة الهروب إلى الأمام من خلال اعتماد منهجية الاقتراض العشوائي لا لخلق الشغل والوظيفة للعاطل عن العمل، وإنّما لإرضاء العامل وإسكات حناجر الغضب والتنديد من واقع اقتصادي مترهّل.
الأمر الذي حوّل قضية البطالة والوضعية الاجتماعية إلى “مقبرة” لحكومات ما بعد 14 يناير 2011. تسقط عندها كافة الشعارات الانتخابية بالتشغيل والنهوض الاقتصادي، وصيّرت ذات الإشكال إلى معين حيّ لاستقطاب الشباب للإرهاب وللانخراط في المجموعات التكفيرية.
ليبيا بدورها تعيش حالة من “الدولة العرجاء”، حيث تقف ما تبقى من سلطة، أو لنقل سلطات متقاتلة حتى بعد توقيع اتفاق الصخيرات، حبيسة ترسانات من السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل المنتشرة بين أيادي مافيات “المقدس والمسدس” التي باتت تسيطر على مسقط رأس العقيد وتطلّ بـ”إرهابها وترهيبها” على الجوار الأوروبي.
على مدى أكثر من 4 سنوات بقيت ليبيا 17 فبراير عرجاء، عاجزة عن الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والدستوري، وحتّى الاستحقاق الانتخابي البرلماني الأخير سقط على يد دعاة “الشرعية”، لتظل بذلك ليبيا تعيش تناقضا بنيويا عميقا بين الدولة والميليشيات أو بين السلاح المنظم والتنظيمات المسلحة.
مصر بدورها تعيش نوعا غربيا من “الدولة العرجاء” حيث تزداد الهوّة باطراد بين مناصري ثورة 25 يناير 2011 وأتباع ثورة 30 يونيو 2013، فلا السابقون الأوّلون من الثوار قبلوا بثورة التصحيح، ولا اللاحقون من المنتفضين يقبلون بإعادة ذات الوجوه الإخوانية التي ثاروا ضدها في صيف 2013، وبين الطرفين تفقد مصر أهمّ أساس لإنجاح الانتقال الديمقراطي، وهو الإجماع والتوافق.
أمّا اليمن وسوريا، فلا صوت يعلو فوق صوت السلاح بعد أن استحالا مجالات توسّع لدول إقليمية ولساحة تصفية حسابات دولية بين اللاعبين الإقليمية والعالميين الكبار، وهو ما من شأنه أن يحول دون إعادة البناء والإعمار، ذلك أنّ الدولة التي تفقد السيطرة تضيّع معها السيادة والقيادة، وتصير بذلك من لاعب إقليمي إلى ملعب إقليمي.
حيال هذا التأصيل يصبح السؤال عن سبب تقاطر الشباب العربي عامة والتونسي خاصة على التنظيمات التكفيرية ضربا من ضروب الجدل البيزنطي، فالدولة العاجزة عن تسيير شؤون مؤسساتها وتأمين أفق الحلّ لأبنائها وعن الحيلولة دون تحوّل المشاكل إلى معضلات مغلقة، تقدّم شبابها هدية لداعش الذي يبني كلّ إستراتيجيته الاستقطابية على فشل الأنظمة السياسية العربية، ويقدّم نفسه “البديل” عن فاعل سياسي رسمي متأزم وعاجز وأعرج أيضا.
* كاتب ومحلل سياسي تونسي/”العرب”