بقلم: د. محمـد محمـد المـفـــتي*
شعبنا الليبي، في اعـتـقـادي، وبكل المعايـيـر المعـقـولة، شعب طيب ومعتدل. فلماذا عانى طيلة السنوات الأربع الأخيرة، الكثير من تقلبات وخداعات نخبته السياسية المتصدرة لمواقع السلطة المختلفة والتي رافـقـها أيضا، نهب الأرصدة الوطنية، وانتشار ترسانة السلاح التي خلفها نظام القذافي. أليس هـذا ما جـرّ البلاد إلى حافة هاوية الفشل؟
القتــال بين الإخــوة أبنـاء الوطـن الواحـد تحت شتى المسميات، أنـبـت في أرجاء البلاد عشرات أمراء الحرب، فضلا عن الدمــار الجنوني، الذي حملت بنغازي وزره أكثر من غيرها من المدن الليبية. هذه الحرب الأهلية قـادت إلى ما هـو أنكى من الموت والرعب، فـقـد أفقدت عشرات الألاف منازلهم، فنزحوا أو هاجروا، وأغلقت المدارس والجامعات والمصارف والمستشفيات وغيرها من الخدمات… بل وكل ما يسـتنـد إليه اسـتقرار المجـتمـع ويـؤهـلـه للنمـو والتـقــدم.
وصـاحب هـذه الحرب الأهلية تعـاظـم روح الانتـقــام والكراهيات التي لم تولد لنا سوى الفوضى والحيرة ، والقنوط الذي سكن نفوس الناس. ويعجز الليبيون عن تفسير كيف ولماذا تحول مجتمع مسالم تعايش أبناؤه لقرون، إلى جماعات هوجــاء، تسيطر عليها روح عدوانية دون لجـــام.
رغم هذه العبارات العاطفية التي لا تخلو من غضب، إلا أن هناك أسبابا موضوعية لتفسير المشهد الليبي. هناك الآن في ليبيا برلمانان ولكل حكومته المفـتـقــرة للكـفاءة، وهـؤلاء هم من يخاطبهم المندوب الأممي السيد برناردينو ليون في بحثه عن مخرج من الأزمة الليبية. لكن السلطة الحقيقية في ليبيا اليوم هي في يــد الجماعات المسلحة وليست في يد تلك المؤسسات السياسية. وفهم دينامية هذه الجماعات هو ما قـد يجعل عملية البحث عن المصالحة مثمرة وبنـــاءة.
مصالحـة قـصـــيرة النـظــر
دعونا نُـقــرّ للسيد ليون بأنه استطاع بصبر أن يجمع بعض الليبيين من ساسة وقادة أحزاب ونشطاء، حول موائد المفاوضات في مختلف عواصم العالم، حتى ولو لم يكن اختياره للمشاركين ، مســتـندا على تمثيل صحيح للخارطة السياسية الليبية. ثم إن مقترحات السيد ليون التي ابتدعها، لم تكن في كثير من الحالات سوى تعبير عن أمانيه ليس إلا. ومؤخرا مـُنـح برلمان طرابلس دورًا ومكانة مهيمنة في إطار بنية السلطة المقترحــة. وبالطبع فقد أشعلت هذه المقترحات غضب برلمان طبــرق المعترف به دوليا. أما في مصراته، الدولة-المدينة البارزة، فقد رحب قادتــها المدنيون بمقترحات لـيــون، ربما لأن الأمل يخالـجـهـم في أن يلعبوا دور الحَـكـَم في ســاحـة السياسة الليبية مســتقبلا ؟
وفوق ما تقدم، نجد في المسودة الرابعة التي طرحها السيد ليون، تناقضات هنا وهناك، من ذلك مثلا أن المجلس الأعلى للدولة الذي يقترحه (المادة 19) ، يُعـَـرّف على أنه أعلى مؤسسة استشارية في الدولة، وفي نفس الوقت يمنحه سلطة اتخاذ آراء ملزمة في الأمور التشريعية.
ورغم هذه المصاعب تبقى الرغبة قوية لدى الليبيين للتصالح والتعايش ، بـعـد أن أنـهـكـتــهم من حــدة الصراع والفوضى. وجميعهم أمسى يدرك أن الحرب ضرب من الجنـــون ولا جـدوى من ورائــهـا. ولا ننسى أن المـتقـاتـلــين لا يشكلون أكثر من واحـد بالمائة من تعداد السكان. لكن السيد ليون لم ينجـح للأســف، في اســتثمار هـذه النـوايا الطيبــة لدى الليــبيين !!
عـنـد مـفـتـــرق الطـرق
بغض النظر عن التفاصيل القانونية، ليس من المـبالـغـة أن نخـلـص إلى أن مبادرة الأمـم المتحــدة للمصالحــة بين الأطراف الليبية قـد وصلت طريـقا مســدودًا. والساسة الذين يحـاورهم السيد ليون، لم ينجـحـوا بـعـد في الوصــول إلى اســتجابة قابلة للتـطـبــيـق. ولم تحـسـم بـعـد الخصومات والشكوك بشــأن تشكيل حكومة وحــدة وطـنيــة. وحتى لو شـُـكلت مثل هذه الحكومة إســميا، فســتكون أضـعــف من أن تحـقـق السلم الداخلي المبتـغى، ناهيك عن وضع حـد للـهـجرة غير الشرعية أو المخاطر التي تخشــاهـا أوروبا.
ولهذا كله تعالت أصوات بعض المراقبين مفصحة عن شكها في جدوى التعامل فقط مع إدارتي طبــرق وطـرابلـس، اللتان تســتمـدان “شرعيتـهـما” أســاسـا من انتـخــابات شــابـها كثيــر من الخـلـل. ومـؤخـرا دعى بعض المحـللين إلى أن تشــيح الدبلوماســية الغربية نظرهـا عمن ” يريــدهم الـغـرب أن يكـونــوا في السـلطة” وتـركـز على مـخـاطـبــة ” من يمتـلـكــون السـلطة فـعليــا”، أي أنـهـم يحضّون الولايات المتحــدة وأوروبا على التعامل مباشــرة مع قــادة الجـمـاعات المســلحـة والمجالس الاســتشــارية ذات الصلة بـهـم. ويبـدو أثناء كتابة هذا المقال، أن شيئا من هـذا الـتــوجـه هـو مـا يـفـسـر اتصالات السيد ليون الجديدة.
حسابات البـنــدقـيـــة
واقــع الحــال، يكشف لنـا أن كل واحة ليبية وقـرية، ومدينة ومنطـقـة ، لديـهـا كتيبة مســلـحـة أو أكثـر، وربما عشرات منها في بعض المناطـق. وهي فضلا عن تسليحـهـا، كيانات شبه مســتـقلة، تتحرك وتقرر تحت مسميات كثيرة وولاءات متنوعـــة، وربما انجـرّت أحيانا إلى صـدامات محلية. لـكـن معظمها يـتـخــذ أدوارا دفاعية عن مناطـقــهـا، وربما تقمصت دور الشرطي أحـيانا. كما أن بعض الميليشيات الكبيرة حرصت على اتخــاذ مواقف محــايــدة من الصراعات السياسية، وهــذه ميزة إيجـابية، ويمكن لمثل هذه التشكيلات أن تلعب دورا بـنــّــاءًعلى المستوى الوطني.
ومن هـذه الـزاويــة، يمكنـنا أن نلخص المشــهـد الليــبي الحالي في التالي، بشرط أن لا ننسى أن التحـالفـات ســيالة ومتـغـيرة:
في طرف الطيف العـسكري، هناك الجيش الذي أسـسه حـديـثــا، الفريق خليفة حفـتــر من ضباط وجـنـود محتـرفين، مضاد لكل المليشيات لأنـها خارج سـلطة الدولة. وقد أظـهـر هـذا الجيش كـفــاءة ويسيطر على معظم الشرق الليبي ومعظم بنـغـازي. أمـا على المدى البعـيـد فلربمـا افـتـقـر هـذا الجيش للتماســك المـطـلــوب.
على الطرف الآخـر من التشكيلات العسكرية، هناك مجموعات تنـظـيم الدولة الإسلامية الرافض لأي مفاوضات، وتوجد هذه المجموعات في سرت وصبراته، وإلى أمد قريب في درنة، لكن خلايها ربما توجد في مختلف أرجـاء البــلاد.
هناك أيضا كتائب فجـر ليبــيا، ربما أقـوى تشكيل مسلح في الغرب الليبي، والمسيـطـرة على العاصمة طرابلس. وفجر ليبيا تحالف عريض، تدعمـه مصراتـه وذي صبغة دينية، وهـنـاك على المستوى الدولي من سبق أن اعتبره منظمة إرهابية، لكن فـجـر لـيـبـــيا قد يمسي ضامنا لأي مصالحة رسـمية بالنظر لارتباطــه بالمؤتمر الوطني في طرابلس. ثم إن فجر ليبيا هـو من يصارع تنظيم الدولة المتمركز في سرت. غير أن تحالف فـجــر ليبيـا مـتـعـدد التكـوين، ولـهـذا ربمـا لن يســتـطيع الاحـتـفــاظ بتناغـمــه الحالي لأمـد بـعـيــد.
الجماعة الليبية المقاتلة، وتأسست في التسعينيات من القرن الماضي، لمـناهضــة نظــام القــذافي. وأمضى بعض قادتها وأفرادهــا فترات في آفـغـانســتان ولكن دون أن ينضموا إلى القاعدة التي كان يقودها بن لادن. ومنذ ســقوط القـذافي نجح رجال المقاتلة في غـرس حضورهم في الدولة الليبية، ونجـحــوا في السيطرة على مواقع هامة بـهـا، بما في ذلك منصب عميد بلدية العاصمة طرابلس، والسيطرة على قـاعدة امعيتيقة الجـوية ذات القيمـة الاسـتراتيجية. ويتـحـرك شباب المقاتلة تحت راية فجر ليبيا في الغرب، وتشكيلات الثوار في بنـغــازي ودرنـة.
وبين هـذه التشكيلات التي ذكرناهـا تتوزع جماعات مسلحة كثيرة، المحايدة في الغالب وبدرجـات متـفـاوتـة، بعضها صغير، ولكن بعضها ينتمي لجماعات ذات حـضــور تـقـليــدي عـالٍ، مثل ورفلة في الغـرب، والأمازيغ في جبل نفوسـة، والزنتـــان، والطــوارق والتـبــو في الجـنــوب. ولابــد من إشراك هـذه التشكيلات في أي مفاوضــات نحـو المصالحة الوطنيـة، كـوســطاء وأيضـا كضـامنــين لأي اتـفــاقـات.
ولابـد هـنـا من التـنويه إلى أن كل هـذه التشــكيلات لا تـخـلــو من تـداخل، وفي حـالة تـبـادل متواصل على مســتوى القدرات والمواقـع. من ذلك مثلا أن الجماعة المقاتلــة في درنــة نجحت قبل أســبوعين في إخـراج مقاتلي تنظيم الدولة من المدينــة، إلى الهضــاب والوديـــان المجاورة. بالمقابل أعلن في طرابلس يوم 5 يـونـيــو، تشكيل جبـهـة الصـمــود من داخـل صـفـوف فـجـر ليبــيا، بحجــة حـمـايــة العاصمة.
وعلى هـذا المـنــوال، يمكنـنـا أن نتـوقـع انشــقاقات وإعـادة تشكل على نـحـو متكـرر. ويصـعـب تـوقــع مسـار الأحــداث على المدى البـعـيـد، لكن التطـورات قــد تأخـذ شيئا شــبيـها بالدوري الرياضي الذي تتساقط فيه الفرق على مراحـل ، لصالح هذا الفريق أوذاك. لكن الأمر في ليبيا سيكون أكثـر مـدعاة للحـزن، شــيئا يذكرنــا بصراعات فـرســان القرون الوســطى الدامـيــة.
وفي ضـوء كل هـذه الاخـتــلافات وإعــادة التشــكل بين حـمـلــة الســلاح، تـبــدو مـقـترحـــات منـظـمـةالأمـم المتـحــدة مـجــرد تـعـبـيـر عن حـسن النــوايا. وللأســف فـإن الاتـفــاقــات على الـورق قـلــما تـتـرجـم إلى واقــع، خـاصــة حين تكـون هـنـاك قــوى أخـرى تتـحـكـم في شــكل هـذا الواقـع .. والتي في حـالتـنــا الليـبــية ليست ســوى نــار البـنــدقـية … فـهـل سيـنـجـح الليبــيـون في العـثــور على حـل مـغـايــر وأكـثر جـدية للـخـروج من هـذه الأزمـة الجـهـنـميـة ؟
*كاتب ليبي/”رأي اليوم”