تونس تسترجع المساجد بلا مؤمنين

بقلم: نزار بولحية*

للوهلة الأولى بدا المشهد مختلفا.. فلا شيء كان يوحي أو يدل على الاطلاق من مظهر المسؤول الذي اعتلى المنصة، متوسطا محافظ القيروان وبعض نواب مجلس الشعب، على أنه بالفعل واحد من كبار الشخصيات العامة في البلد.
لقد حضر الاجتماع الرسمي الاول مع ائمة المدينة وخطبائها، وهو يعتمر عمامة ويرتدي جبة تقليدية، عوضا عن القدوم بالبدلة العصرية المعروفة. ورغم أن كثيرين قد يرون الامر عاديا وطبيعيا، إلا انه في بلد مثل تونس يعد سابقة مليئة بالمعاني والدلالات، حيث لم يعتد كبار المسؤولين والوزراء حضور الاجتماعات واللقاءات الرسمية بالزي الذي يوصف بالقومي او التقليدي، حتى إن كان المعني بذلك وزيرا للشؤون الدينية، مثلما هو حال عثمان بطيخ، الذي لم يكن الاستثناء الاول، بعد أن سبقه إلى كسر القاعدة سلفه نور الدين الخادمي، لما شغل المنصب ذاته في عهد حكومة الترويكا والشيخ عبد الفتاح مورو نائب رئيس مجلس الشعب الحالي. اما ذلك السبعيني الذي قضى سنوات صباه في جامع الزيتونة وصار مفتيا للدولة في الاعوام الاخيرة من حكم بن علي، ووزيرا للشؤون الدينية في الحكومة الحالية، فلم يكن امامه متسعا من الوقت حتى يغير بين عشية وضحاها عاداته القديمة في اللباس. لقد قال أمام الحضور في الاجتماع الذي عقده منتصف ابريل الماضي، في اولى عواصم الاسلام في الشمال الافريقي انه «لم يكن يرغب ابدا في الوزارة، ولم يطلبها، وانما عرضها عليه الحبيب الصيد وانه كان في وضع مريح قبل تحمله العبء الثقيل»، ثم اضاف ايضا بانه «لم يكن يتوقع حجم المشاكل والضغوطات» قبل أن يضع يده فوق وجهه ويحاول مسح بعض الدموع التي انهمرت من عينيه وسط تصفيق الحضور. لكنه لم يفصح في الاخير بعد ذلك عن سر وطبيعة المشاكل والضغوط التي واجهها، فضلا عن الجهة والطرف الذي يقف وراءها. هل كان يتحدث حينها بمنطق الدولة، أم بلسان شيخ وجد نفسه ممزقا بين معارفه وقناعاته، وما يفرضه عليه المنصب والواجب من تنازلات وقرارات مرة وأليمة قد لا تتطابق في كل الاحوال والاوضاع معها؟
كل ما عرفه التونسيون عن الرجل هو ظهوره الموسمي على شاشة التلفزيون الرسمي مرتين في السنة، للإعلان عن بدء وانتهاء شهر الصيام، لما كان مفتيا للدولة زمن الرئيس المخلوع بن علي، وحتى حدود إقالته المفاجئة من دار الافتاء ايام حكم الدكتور المرزوقي. لكن وسائل الاعلام المحلية جعلته قبل اسابيع قليلة من قدومه إلى القيروان، وبقدرة قادر، بطلا قوميا ورمزا من رموز المرحلة الجديدة، بعد أن تمكن في ظرف قياسي من تحقيق ما عجز عنه اسلافه خلال العامين الماضيين، وهو طرد امام جامع الزيتونة بالقوة العامة، تنفيذا لحكم قضائي سابق. لقد حضر إلى الجامع الاعظم بنفسه ليزف البشرى ويصرح لوكالة الانباء الرسمية بانه جاء ليهنئ الشعب التونسي والحكومة بما وصفه «يوما مشهودا تم فيه استرجاع رمز البلاد». لكن نشوة النصر التي وصلت حد اعتلائه منبر الجامع وامامته الصلاة، وسط حضور لافت لرئيس الحكومة، وذلك اسبوعا واحدا فقط بعد إخراج الامام المتمرد من الجامع، أعطت الانطباع بان الطريق باتت ممهدة بالكامل امام الدولة، لتبسط نفوذها التام والشامل على ما تبقى من مساجد خرجت عن سيطرتها الفعلية، في الايام التي تلت هروب بن علي. وبالفعل فقد حقق الوزير بعض التقدم في ما اطلقت عليه الصحف «حرب استرجاع المساجد». ووفقا للاحصائيات الرسمية فلم يتبق الان سوى عدد قليل لا يتعدى العشرات من تلك المساجد التي توصف بالخارجة عن سلطة الدولة، أي البعيدة عن الاشراف الفعلي والمباشر للوزارة، رغم انقضاء مهلة السادس من ابريل الماضي، التي وضعت كحد اقصى لتسوية سلمية وقانونية، تحول دون اللجوء إلى استخدام القوة، تنفيذا لقرارات قضائية باخلاء المساجد من الائمة غير الخاضعين لترخيص الوزارة واشرافها. وحتى رئيس الحكومة فهو لم يغفل بدوره، في حواره الاخير قبل ايام على القناة التلفزيونية الرسمية، من التذكير مرة اخرى بأن حكومته بصدد وضع «برنامج خصوصي لتنظيف المساجد من التكفيريين الذين يقومون ببث الافكار المتطرفة والمسمومة في صفوف الشباب». لكن شكل التنظيف المقصود واسلوبه وتفاصيل البرنامج ظلت مجهولة حتى الان. وبقي التساؤل قائما بالمقابل عما اذا كان ذلك الاعلان وتلك التحذيرات مؤشرات عن قرب الشروع في حملة مجنونة لا ضابط او رادع لها تأتي على الاخضر واليابس وتقتلع الجميع، من دون فرز او تمييز بين مساجد صارت الطرق اليها سالكة ومفتوحة بسقوط رموز النظام السابق؟
لقد ظل الجدار السميك الذي ضربه ذلك النظام حول المساجد وجعلها تصبح بنظر التونسيين قلاعا مغلقة ومعزولة يصعب الدخول و الخروج الآمن منها، من دون التعرض للمضايقة والمساءلة، ماثلا في الاذهان. ولكن الاخطر من ذلك هو أن الصورة النمطية التي روجت حولها باستمرار، طوال عهد الاستبداد، وقدمتها على انها مجرد منصات انطلاق للارهابيين والمتطرفين، عادت الان للظهور بقوة في وسائل الاعلام المحلية، تحت مبرر الخوف على الدولة المدنية والديمقراطية من الافكار التحريضية والهدامة التي تفرخ داخلها. هل كان قدرا أن تبقى المساجد في تونس بعيدة عن المؤمنين زمن القبضة الحديدية التي خنقت كل الحريات وقتلتها، ثم بعد ذلك ايضا زمن القبضة المخملية التي من المفترض انها اعادت الحياة لها وسمحت لها بالعيش والوجود؟ لقد قال الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في كلمة القاها منتصف مايو الماضي امام المنتدى العالمي للديمقراطية الحديثة المباشرة، بانه «نتيجة استخدام المساجد من بعض المتطرفين عدنا إلى الوراء، أي إلى مرحلة تعيين الائمة من طرف وزارة الشؤون الدينية، وأعدنا حتى الطبقة القديمة من الائمة». واضاف الشيخ في الكلمة ذاتها انه «كان من المفترض أن تنشأ في كل مسجد جمعية منتخبة من المصلين، هي التي تدير شؤون المسجد ويكون ذلك ممارسة للديمقراطية المباشرة في كل حي». ولكن هل كان احد يتوقع من التونسيين الذين غاب المسجد عن اذهان معظمهم وتلاشت وظيفته الروحية والتربوية والحضارية، أو كادت من عقولهم، أن يهرعوا فور تآكل النظام القديم وتداعيه للسقوط إلى البحث عن استرداده من دولة ظلت تطبق عليه وتمنعه عنهم وحولته إلى وكر للدعاية الممجوجة للنظام والتلصص والتجسس على المناوئين والخصوم المفترضين؟ لقد كان موقفهم سلبيا حتى وهم يرون بعض الشباب المنفلت والمتعصب يصعد منابر تلك المساجد التي خرجت عن سلطة الدولة في الشهور الاولى التي تلت هروب الرئيس المخلوع، ووقعت تحت سلطة لا تقل بطشا وعسفا وهي سلطة الجهل. وكانت كل ردة فعلهم هي هجرها وتركها فريسة سهلة للتعصب والحقد بعد أن هجروها في السابق وتركوها مرتعا واسعا للاستبداد.
إن ما حصل هو أن الدولة لم تتنازل او تفرط ابدا حتى في اضعف حالاتها فيما ظلت تراه احقيتها بالمساجد، فيما ظل المؤمنون غير مدركين او واعين للحاجة والضرورة التي قد تدفعهم لكسر الحاجز وممارسة ما وصفه الشيخ الغنوشي بـ»الديمقراطية المباشرة». أما السبب فقد يكون واضحا وبسيطا، وهو أن تصورهم لدور المسجد لم يكن في الغالب يتعدى وظيفة قاعة مفتوحة لمجرد الصلاة فحسب. ومن المؤكد أن الامر قد يستغرق وقتا طويلا وربما اجيالا اخرى باكملها حتى يفهم هؤلاء أن هناك وظائف اخرى للمسجد لا تقل ضرورة واهمية عن دوره في الصلاة، وهو الوقت نفسه الذي قد تحتاجه تلك الاجيال حتى تفهم بدورها أن المظاهر قد تخدع احيانا، وان حضور الوزير والمسؤول اجتماعا رسميا بالبدلة الرسمية او بالجبة سيان مادامت النتيجة في كلتا الحالتين واحدة.

٭ كاتب وصحافي من تونس/”القدس العربي”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *