بقلم: حبيب راشدين*
قد تكون هذه السنة آخر سنة نستقبل فيها شهر رمضان المعظم وأكثرية الجزائريين في سعة نسبية من الحال، بفضل مخلفات سنوات النفط السمان، وقد لا يمضي عام حتى تضطر الحكومة إلى سلسلة من الإجراءات التقشفية المؤلمة، تبدأ باستهداف دخل الأكثرية، برفع الدعم عن قائمة قابلة للتوسع من السلع والخدمات، بدءا بالمحروقات ومشتقاتها وموارد الطاقة بالجملة، انتهاء بالبرامج الاجتماعية في السكن والتعليم والرعاية الصحية، مرورا بتجميد الأجور في الوظيف العمومي، ووقف العمل بكثير من برامج تشغيل الشباب. ولن يمضي كثير من الوقت حتى تضطر الحكومة إلى الاقتراب من قدس الأقداس برفع الدعم عن المواد الغذائية الرئيسة.
عودة السنوات العجاف
ما هو متفق عليه بين خبراء الاقتصاد أن الحكومة الجزائرية لا تمتلك بدائل كثيرة لتفادي مثل هذه القرارات المولّدة للانفجارات الاجتماعية في بلد يُدار منذ الاستقلال بسياسات شراء السلم الاجتماعي بعوائد اقتصاد ريعي مرتبط ببورصة أسعار المحروقات، يعتمد على عوائد النفط في بناء ميزانيات الحكومة بنسبة تزيد عن 97 % ، الدخل القومي الخام فيه يدين بأكثر من 80 % للمحروقات التي تدخل في تشكيل الدخل الفردي بنسبة 70 % حيث تشكل التحويلات الاجتماعية ـ نحو 60 مليار دولارـ قرابة ثلث الناتج القومي الخام.
وحيث إن واردات البلاد لسنة 2014 قد بلغت 58 مليار دولار يُضاف إليها 11 مليار دولار من الخدمات المستورَدة، قد تجاوزت عوائد البلد من الصادرات التي لم تزد عن 62 مليار دولار مع احتساب الصادرات خارج المحروقات، فإن انهيار أسعار المحروقات قد فرض على الحكومة اللجوء إلى ميزانية بعجز هو الأكبر منذ الاستقلال. وسوف يستمر العمل به لسنوات قادمة، بما يعني دخول البلد في دوامة الاستدانة الداخلية، وربما العودة إلى الاقتراض الخارجي بعد استهلاك المخزون المالي الاحتياطي الذي استُهلك منه قرابة الربع منذ بداية انهيار أسعار النفط.
في الصيف ضيّعت اللبن
مؤشرات كثيرة تؤكد أن الحكومة كانت في غفلةٍ من أمرها، ولم تلتفت إلى المؤشرات الموضوعية التي كانت تشي منذ بداية الأزمة الاقتصادية العالمية بتراجع الطلب على المحروقات، وتراجع أسعارها بالضرورة، كما لم تلتفت إلى التحوّلات الجيوستراتجية وظهور بوادر حرب باردة جديدة سوف يستعمل فيها سلاح النفط مجددا وقد حصل على خلفية معارك كسر العظام في أوكرينيا والشرق الأوسط، وأن القرار السعودي بإغراق السوق بفائض كبير من العرض سوف يتواصل ويتفاقم لسنوات قادمة، وأنه ليس في الأفق ما يشير إلى تحسّن قريب في أسعار المحروقات قبل تسوية كثير من النزاعات في الشرق الأوسط، وتطويق الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا.
إلى جانب هذه الآفاق المسدودة، وغياب قطاع بديل للمحروقات، فإن البلد قد أحيط ببؤر متحرّكة من الفوضى على معظم حدوده الجنوبية والشرقية، اضطرته إلى تجنيد استثنائي لحماية حدوده، وبالتالي إلى مزيد من الإنفاق على القطاعات الأمنية، كما يمنعه من مباشرة سياسة تقشّفية صارمة، قد تفكك جبهته الداخلية، وتخرّب السلم الاجتماعي الهش، في بلد احتاج إلى قرابة عقدين من الزمن للمْلمة جراحه وتطويق مخلّفات العشرية السوداء.
حلولٌ ممتنعة
ولأن المصائب تأتي تباعاً، فإن الضائقة المالية المقبلة فاجأت السلطة وهي في أرذل العمر، مع مؤسسات حكم مصابة بالتخشّب والشلل، غير قادرة على صناعة توافق حتى بين مكوّناتها، فضلا عن عجز فاضح في الانفتاح على معارضة مستضعفة هزيلة، يُحسب لها في الحد الأدنى أنها لم تنخدع كثيرا بما خُدعت به المعارضات في كثير من دول الجوار العربي، ولن تكون هي الطرف الفاعل في ما هو قادم من الاضطرابات الاجتماعية، والتهديدات الأمنية المتدحرجة من حدودنا الشرقية.
تواتر تسريبات محتشمة حول شروع أرباب الدولة في الترتيب لخلافة آمنة للرئيس أواسط العام المقبل، قد يكون له أكثر من شاهد في بعض الإجراءات المتخذة في بعض مواقع السلطة، مثل إغلاق اللعبة داخل جبهة التحرير على هامش مؤتمره العاشر، والتغيير الحاصل على رأس التجمع الوطني بعودة السيد أويحيى، أحد أكثر الأسماء المرشحة للخلافة، ومنح فرصة جديدة للسيد عبد المالك سلال على رأس الحكومة، وإرجاء الفصل في التعديل الدستوري الذي قد يُصرف عنه النظر قبل الفصل في مسار خلافة الرئيس.
حراكٌ مرتبك
وحتى مع التسليم بفرضية نجاح أركان السلطة في التوافق على خليفة للرئيس، فإن تسويقه سوف يقترن ببداية السنوات العجاف، وعجز السلطة عن شراء توافق شعبي واسع عبر مسار انتخابي مستنسخ من المسارات السابقة المسيّرة عن بعد، إلا إذا كان في جعبة السلطة تدبيرٌ كيدي لا نعلمه، يشتغل قبل الموعد على بث مشاعر الخوف والرعب، وتخيير المواطنين بين حلول السلطة كعقد إذعان، أو الدخول في دوامة الفوضى التي يكون فيها أوّل من يدفع الثمن.
ولأن تحريك مياه السلطة الراكدة جاء متأخرا فإن عوائده ـ إن كانت له عوائد ـ سوف تحتاج إلى مزيد من الوقت لم تعد تمتلكه السلطة، وإلى صبر المواطنين على قطار الإجراءات التقشفية المؤلمة التي لم يتعود عليها، وإلى تطويق عاجل لمسارات الفساد التي تمنع المواطن من تحمل أعباء التقشف كاملة، كما تحتاج إلى مباشرة سياسة تقشف في الإنفاق الحكومي، والإنفاق المفرط على المؤسسات الطفيلية في الدولة وملاحقها في المشهد السياسي والجمعوي سوف تبقى ممتنعة في نظام حكم أسس على شفا جرف هار قد ينهار به في أي لحظة.
*كاتب صحفي جزائري/”الشروق”