بقلم: المهدي مبروك*
في فورة ثورة التونسيين، ومشاعر الانتصار التي حلقت بهم عاليا فوق السماء، وتحت العرش بقليل، ولو إلى حين، استطاع التونسيون أن يجنحوا، وأن تكون لهم أحلام لا تتسع لها السماوات بما رحبت، استطاعوا، في غمرة الطيش الثوري الجميل، أن يهدّوا بعض أركان نظام ثرنا عليه، وقد جثم على صدورنا أكثر من ربع قرن، فصدرت بعض القرارات، واتخذت إجراءات عبّرت عن إرادة شعب ثائر في أشهر قليلة. كانت لحظة المد الثوري الهادر عالية، تهد الجبال لو اقتربت منها. تم حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي والهيئة التشريعية (مجلس النواب) وتعليق العمل بالدستور لإلغائه في ما بعد، ومصادرة مئات الشركات التي كانت ملك الرئيس المخلوع بن علي وأصهاره، وبعض المتنفذين الذين استولوا على المال العام، وافتكوا أملاك مواطنين. وقد عرض بعضهم من تلك الممتلكات للبيع، وحفظ بعضها، كجزء من تراث البلاد وذاكرته، مثل المجوهرات واللوحات الفنية وغيرها، وكان بعضها قد سرق من رصيد الدولة المتحفي، وظلت تلك الأملاك ملك الدولة، على الرغم من سوء التصرف الذي حفَّ بها. ثمة من يصنع لنا منذ أمد ليس قصيراً “فابريكات” ثقب الذاكرة بشكل فعال وصناعة النسيان في مناخٍ، أحسنت استثماره جماعات الماضي البغيض، لإيجاد حالة عامة، هي خليط من مشاعر الإحباط واللامبالاة وحتى النقمة. أفلح هذا المناخ في فلحه أركان النظام القديم، بكل جدارة وكفاءة، وبدا التجرؤ على الثورة ورموزها إلى حد التهكم والازدراء، وكان الإعلام وقود تلك المصانع: رأينا كيف تجرأت الكاميرا الخفية على جعل الشهيد شبحاً مخيفاً ومرعباً، ورأينا كيف تغزلت “الشاعرة بنت البائد” بالديكتاتور، ورأينا أيضا أشياء أخرى، لا تخطر على البال.
أطلق سراح قتلة الشهداء وبدأ الحديث من رئيس الجمهورية الحالي عن مصالحة وطنية، وهيئة الحقيقة والكرامة، الموكول لها دستورياً، تطبيق قانون العدالة الانتقالية، لم تتسلم بعض الملفات التي منعها حرس الرئاسة، قبيل أن يغادر رئيس الجمهورية السابق، المنصف المرزوقي، قصر الرئاسة بسويعات.
لم يكن قرار المحكمة الإدارية الأخير قد شكل صدمة على فجاجته، حينما قضت إحدى دوائره ببطلان المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المتعلق بمصادرة أملاك العائلة الحاكمة، ولها من المستندات ما يغطي جبال الخيبة التي أصابتنا، عدم احترام المرسوم شعائر المصادقة المنصوص عليها في القانون المؤقت للسلطات (الدستور الصغير) الذي سير البلاد في المرحلة الانتقالية الأولى، أي قبل إجراء انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014 إلخ، أي إحالته على المجلس الوطني التأسيسي للمصادقة عليه، وبقطع النظر عن مدى متانة تلك المستندات من عدمها، فإن الأمر لا يمكن أن يكون خارج تلك السلسلة من الارتدادات، وتكمن براعة هذا السلسلة في تخير الظرف المناسب، فالحكم صدر في توقيت زمني، يتسم بالجدل السياسي والقانوني، وحتى الحقوقي الذي حفَّ بمشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، وهي تحفظات تحوم، في مجملها، حول مدى استيفاء المشروع معايير استقلال القضاء المتعارف عليها دولياً، ما يجعل التساؤل، أو حتى مجرد الاستياء مما صدر، وكأنه طعن في استقلال القضاء، خصوصاً أن مشروع القانون هذا ألغته الهيئة المؤقتة، المكلفة بالنظر في دستورية القوانين التي أعادته إلى مجلس نواب الشعب.
ويتسم التوقيت أيضاً بإطلاق مبادراتٍ عن مصالحة قد تستبق عمل هيئة الحقيقة والكرامة، وتقطع الطريق عن استتباعاتها، بعد أن بدأت الهيئة في قبول الملفات، ما يعطي رسالة سيئة للضحايا، فما تفعله الهيئة سيبدو لعديدين غير ذي جدوى، وآيلاً إلى الفشل، وربما تكون الهيئة نفسها محل مساءلة، وربما يذهب بعضهم كثيرا إلى توقع حلها وإلغائها، أصلاً، باعتبارها باطلة قانونياً، لكونها تشكل عدالة موازية. وهناك خشية متنامية حاليا لدى ضحايا من أنهم قد يكونون محل مساءلة قانونية من جلاديهم في الأيام المقبلة، وهذا ما سيجهض إمكانية كشف الحقيقة والمحاسبة، فضلا عن الإنصاف والمصالحة. وثمة مناخ التخوين لمن سولت له نفسه الدخول في موجة الاحتجاجات الاجتماعية ذات العلاقة مع ملفات الفساد.
ومع حرصنا على استبعاد نظرية المؤامرة على الثورة، ولو بشكل ناعم وذكي، يجنب التكلفة الباهظة بشرياً، على شاكلة ما وقع في مصر، أو غيرها، لخصوصيات محلية تعنينا، وقدرها خبراء الانقلابات حق قدرها، فإن إطلاق سراح الأمنيين من قتلة الشهداء، وإعادة بناء الحزب الحاكم سابقاً، والحاكم حالياً، وتجنبنا بحكمة بالغة، لكنها مريرة، تمرير قانون العزل السياسي الذي كان سيشل رؤوس النظام السابق سياسياً، ولو إلى حين، وتعيين بعض أركان النظام القديم كوادر عليا، تقود البلاد، بعد انتخابات 2014، مرحلة ستبدو كلها لبنات تتراكم لعمل ممنهج، ولن تكون مجرد مصادفات مبعثرة.
هل أتهم أحدا؟ ربما، ولكن، لا أستثني أحداً أيضاً، بمن فيهم من حكموا ما بعد انتخابات 2011. ربما تعللنا بأن مناخ الانقسام الداخلي ومخاطر الإرهاب والحصار الإقليمي للتجربة، والأداء المتواضع للفريق الحاكم، كان من بين أسباب استئساد أركان النظام. ربما كان ذلك صحيحاً، ولكن، أعتقد أن الأمر فيه أيضا بعض من تقدير حسابات، كان في الأصل خاطئاً. يطربنا بعضهم بخطاب مفاده: أنكم ربحتم انتقالاً، في مقابل أن يكون شريككم النظام نفسه، وهذا أفضل مما حدث لدى جيرانكم وأترابكم في الربيع العربي. قبلنا هذا، ولكن، تنتابني مخاوف من أننا قد نكون ضحايا لهذا النظام العائد، ولن تكون الثورة، آنذاك، سوى جريمة ارتكبناها.
*وزير سابق/”العربي الجديد”