مُعَذّبو الأرض يعبرون المتوسط

«علينا ألاّ نضيّع الوقت في ثرثرات عقيمة، أو في لغو يبعث على الاشمئزاز. فلنترك هذه الأوروبا التي لا تفرغ من الكلام على الإنسان، وهي تقتله جماعات حيثما تجده في جميع نواصي شوارعها، وفي جميع أركان العالم. لقد انقضت قرون وهي تخنق الإنسانية كلها تقريباً باسم مغامرة روحية مزعومة». كتب ذلك قبل نحو نصف قرن الفليسوف وعالم النفس فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض»، وفيه تحدَّث عن قتل المستعمرين الفرنسيين مليون جزائري، وأعلن انضمامه، وهو الأفريقي الأصل من جزر الكاريبي إلى «جبهة التحرير الجزائرية». كم مليون أفغاني، وعراقي، وسوري، وفلسطيني، وليبي قتلهم الأوروبيون منذ ذلك الحين؟.. لا أحد يعرف حتى عدد غرقى البحر المتوسط الهاربين من جحيم بلدانهم، الذي أشعله التحالف الأوروبي الأميركي.
شهادة مروعة تقدمها «كيارا مونتالدو»، منسقة منظمة «أطباء بلا حدود» في صقلية عن حال مهاجري زوارق يقضون أياماً في البحر، بدون طعام أحياناً، وذكرت أن «المهاجرين العرب أفضل حالاً من غيرهم، فالزورق القادم من تركيا حمل مهاجرين مع أمتعتهم من فلسطين وسوريا ومصر، فيما زورق صيادي أسماك من ليبيا، حمل أفارقة دون متاع، وبعضهم حفاة، وبينهم أطفال يسافرون لوحدهم، وشابات انتُهِكن، وعُذِّبن، وأمهات يحملن رُضّعَ عمرهم أيام». وعدد الغرقى نهاية الأسبوع بلغ نحو 800، والعدد الحقيقي أضعاف ذلك، حيث لم يبق على قيد الحياة سوى 28 من 800 يحملهم زورق صيد أسماك مبحر من ليبيا، انقلب قرب سواحل جزيرة «لامبيدوزا» الإيطالية. وللتغطية على مسؤولية السلطات الأوروبية عن إنقاذ الغرقى، حسب قوانين البحار، اعتُقل ربّان الزورق التونسي، ومساعده السوري، ولفِّقت الأكاذيب حول إلقاء المهاجرين المسيحيين في البحر!
قرار القمة الأوروبية، التي عقدت في بروكسل، خصّصَ أقل من نصف مبلغ عمليات الإغاثة الإيطالية التي ألغيت العام الماضي بسبب كلفتها البالغة نحو 10 ملايين دولار شهرياً، وبالكاد يغطي نفقات وكالة حماية الحدود البحرية الأوروبية «فورتيكس»، فيما يجوس أكثر من نصف مليون مهاجر سواحل شمال أفريقيا بحثاً عن فرصة عبور المتوسط، فالموت غرقاً أهون من الموت تحت التعذيب، حسب مهاجر أرتيري.
«منظمة الهجرة الدولية» التي رحبّت بقرار بروكسل أكدّت الحاجة لمعالجة مشاكل بلدان المهاجرين الأصلية. والحقيقة أن أكثر من نصفهم ليسوا مهاجرين، بل هم لاجئون من حروب أشعلتها دول أوروبا في مستعمراتها القديمة، التي لم تتوقف عن غزوها وتدميرها، منذ العدوان الثلاثي على مصر منتصف القرن الماضي، وحتى «الغزو الثلاثيني» للعراق مطلع القرن الحالي، وعمليات التدمير الجارية في أفغانستان، وفلسطين، وليبيا، وسوريا.
وكعادتهم سارع زعماء أوروبا الغربية إلى إطلاق نداءات الحرب، وتعهدوا بإرسال زوارق مسلحة، وطائرات مروحية لتدمير زوارق المهربين. ونقلت «غارديان» عن دبلوماسيين أوروبيين أن «الخطط الموضوعة ارتجالية، وغير دقيقة، وردود فعل حماسية ومتسرعة على الكارثة». وتواصل حكومات أوروبا التعامل مع الموضوع ليس كمأساة إنسانية ساهمت في خلقها، بل كجرائم، وضعت لها خطة استراتيجية ثلاثية المحاور، عسكرة حراسة الحدود، وتجريم المهاجرين، وخصخصة الحل. وذكر مراسل «دِر شبيجل» الألمانية الذي زار مقر وكالة حراسة حدود أوروبا البحرية في بولندا أنهم يعتبرون مهمتهم «الدفاع عن أوروبا ضد الأعداء»!
و«عندما نثور ليس بسبب ثقافة معينة، بل نثور ببساطة لأننا لأسباب عدة لم نعد نستطيع التنفس» قال ذلك «فانون»، وهذا هو سبب عمليات الانتحار الجماعية، التي نشاهدها عبر المتوسط، وقبلها في غزة، وباقي بلدان العرب والمسلمين، التي لا تتوقف فيها العمليات الانتحارية. وتستدعي الحقيقة الوقوف أمام الخالق، كموقف رئيس أبرشية مانشستر ببريطانيا، الذي حمّلَ حكومة بلده مسؤولية «غزو العراق، والحرب الطائفية التي نجمت عنها، وأجبرت مليوني عراقي على الهرب خارج بلدهم، وكرّرت الأمر في ليبيا». وقال: إن «الثمن الأخلاقي للتدخلات المستمرة ما وراء البحار هو أن نتحمل جزءاً منصفاً من ضحايا تلك الحروب. وقرار القمة الأوروبية قبول 5 آلاف لاجئ هدفه التغطية على المشكلة، وليس علاجها».

“الاتحاد”

اقرأ أيضا

الصحراء المغربية

منزلقات تأويل موقف روسيا من المينورسو

أثار التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بخصوص التمديد لبعثة المينورسو جدلا كبيرا في مختلف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *