«قصة مدينتين» للروائي البريطاني الشهير تشارلز ديكنز، كتبت لكل مكان وكل زمان يكون فيه البشر في سفينة الرحيل من عصر إلى آخر. المسافة بين لندن وباريس لا تقاس بالكيلومترات أو بالأميال، لكنها تقاس بما تفعله الرؤوس على الأرض. في بريطانيا كانت هناك ثورة بدأت منذ زمن وتوجت بعصر النهضة الفيكتوري الذي تحولت فيه بريطانيا إلى بلد صناعي، له هوية معمارية جديدة وأزياء فريدة وتطورت الخدمات الصحية وارتفع عدد السكان بمعدل غير مسبوق، في حين كان المرجل الفرنسي الذي أوقدت ناره منذ عقود يواصل غليانه. كان تغول السلطتين الدينية والسياسية الشرر الذي أشعل الثورة.
في بريطانيا ثورة وفي فرنسا أيضا، ولكن لكل منهما حطبها وقدرها وطعامها وطعمها. كانت بريطانيا تعرف ماذا تريد، وفرنسا تعرف ماذا ترفض. في بريطانيا ثورة تبني، وفي فرنسا ثورة تهدم. لكن الخاتمة في الحالتين كانت ولادة «زمن جديد».
كانت افتتاحية تلك الرواية (قصة مدينتين) هي العصارة الأولى لروح تلك المرحلة المفصلية في التاريخ البشري: «كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط». هل لا تزال تلك العصارة تفعل فعلها في أيامنا؟.
للتاريخ جذور، وللجغرافيا أغصان، وللظلال ألوان متعددة.
كانت بداية القرن التاسع عشر، بداية كتابة مجلد القرون الآتية لمنطقة شمال أفريقيا. 3 من الرجال أتوا من خارجها، انتزعوا التربة عنوة، غرسوا فيها جذور زمن ورسموا خرائط مستقبلها.
محمد علي الكبير، الجندي الألباني اليتيم الفقير الذي وصل إلى مصر يرتدي بزّة عسكرية عثمانية، وأسس هناك أسرة حكمت مصر عقودا. ويوسف باشا القرمانلي الانكشاري التركي الذي ورث حكم ليبيا، وحاول للمرة الأولى تأسيس شبه دولة ليبية واحدة. وحسين بن علي، اليوناني من أم تونسية (كرغلي) مؤسس الأسرة الحسينية في تونس.
تزوج التاريخ بالجغرافيا وألقيا بيضهما في تربة القادم.
نحاول أن نقف عند ليبيا وتونس ونقرأ صفحات الحاضر من مجلد كتب منذ أكثر من قرن.
كان يوسف القرمانلي حاكما عنيفا مع الجميع. اصطدم بأقرب الناس إليه شقيقه أحمد الذي اعتقد أنه أحق بالحكم، تحالف مع أميركا وهجم على درنة!! قمع المواطنين، وبالغ في فرض الضرائب فقامت ضده ثورات متواصلة. ثم فرض الإتاوات على الأساطيل التي تعبر البحر الأبيض، وشجع تجارة الرقيق. التهمت في عهده الأمراض البشر. لكنه لم يفكر في أي إصلاحات أساسية. كان من بين حاشيته شخصية استثنائية هو حسونة الدغيس، تعلم وعمل دبلوماسيا في أوروبا التي أتقن لغاتها. التقى في بريطانيا بالفيلسوف جيرمي بنتام الداعي للحرية والديمقراطية والمعادي للديكتاتورية وتجارة الرقيق، عرض بتنام على الدغيس مشروع دستور لليبيا واتفق معه على الإطاحة بالقوة بيوسف القرمانلي، لأن ذلك هو الطريق الوحيد لإنقاذ البلاد من الحرب الأهلية. في اللحظة الأخيرة تراجع الدغيس. استمر العنف والمرض والتدهور في البلاد إلى أن عادت القوة التركية مرة أخرى للبلاد وسيطرت من جديد. كانت محاولة حسونة الدغيس مع بنتام هي فكرة الإصلاح اليتيمة التي لم تر النور في ليبيا. استمرت البلاد في محنة التسلط التركي والثورات والمرض والجهل.
في عام 1911 احتلت إيطاليا ليبيا واستولت على آخر إيالة عثمانية في شمال أفريقيا. كانت المقاومة الليبية أعنف مما تصوره الإيطاليون. إذ تقاتل الليبيون في كل مكان وصلته القوات الإيطالية، وبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة دول المحور حاولت إيطاليا إعمال السياسة، فقامت الجمهورية الطرابلسية في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1918 في اجتماع ضم الزعماء سليمان باشا الباروني، وعبد النبي بلخير، وأحمد المريض، ورمضان السويحلي. لكن تلك الجمهورية لم تعمر إلا مدة 6 أشهر فقط.
كان العمل السياسي في ليبيا محدودا بسبب انعدام التجربة السياسية وهيمنة العقلية القبلية وتغول القمع في كل الحقبة العثمانية، وغياب الفكر السياسي وأطروحات الإصلاح ومحدودية التعامل السياسي والفكري مع المحيط الإقليمي والدولي، ففي الوقت الذي شارك فيه سياسيون من المشرق العربي ومصر وتونس في مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919 لم يشارك أي ليبي فيه.
بعد وصول الفاشيين إلى السلطة في إيطاليا، دخلت البلاد في أتون محرقة إبادة شبه شاملة. هاجر الليبيون إلى مصر وتونس وتشاد والنيجر والسودان. في سنة 1939 منحت إيطاليا لعدد محدود من الليبيين جنسية إيطالية خاصة بموجب مرسوم ملكي ولقبوا رسميا باسم «مسلمي إيطاليا». وضمت إيطاليا ليبيا رسميا لها في حين وضعت فرنسا تونس تحت الحماية باتفاقية باردو في 12-5-1881 وبقي الباي وحكومته ولو شكليا على رأس الدولة التونسية.
في تونس كان «الإصلاح» هاجسا مبكرا لبايات الأسرة الحسينية التي حكمت البلاد من 1705 إلى 1957 وتعاقب على الحكم فيها 19 بايا استقلوا عمليا عن الأستانة.
كان المؤرخ والمفكر أحمد بن أبي ضياف علامة فكرية فارقة أسست لمرحلة متقدمة من التطوير الدستوري، فقد نشر في سنة 1872 كتابه «إتحاف أهل الزمان بأخبار أهل تونس وعهد الأمان» وقد نسجه على منوال كتاب ابن خلدون، حيث جعل المقدمة خلاصة للمضمون. وقد لعب بن أبي ضياف دورا أساسيا في إصدار عهد الأمان وهو وثيقة أساسية أعلنها الباي محمد سنة 1857 تمنح السكان لأول مرة حقوقهم الأساسية في الأمن على أرواحهم..
* وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة/”الشرق الاوسط”