كرئيسها، الجزائر ليست في صحة جيدة، البلد مقعد والمرض ينخر كل قطاعاته. اقتصاد ضعيف يعتمد على ريع البترول والغاز واستيراد كل شيء حتى الخبز المجمد، تهرب جبائي ونهب أراضي الدولة وأملاكها في وضح النهار. كثير من الفلاحين والمقاولين لا يجدون اليد العاملة إذ هناك عزوف تام عن بعض الأعمال كالفلاحة والبناء. لا يبحث معظم الشباب سوى عن وظيفة سائق أو حارس أو تاجر، لا ضمان اجتماعي ولا تأمين للعمال في القطاع الخاص، وربما هذا هو سبب تجنب الكثير من الشباب للعمل بهذا القطاع الفوضوي.
في كل المدن والقرى عاطلون عن العمل في مقتبل العمر يجوبون الشوارع، يحملون فناجين قهوة مصنوعة من الكارتون يشترونها من المقاهي المتكاثرة في كل مكان ويرمون بها في الشوارع، وكهول لم يتعد سنهم الخمسين تجدهم في تقاعد مبكر، سرحوا من النشاط عن طريق تسهيلات حكومية لا أساس اقتصاديا عقلانيا لها بل مجانية.
في الجزائر تعامل مالي بدائي، لا بطاقات دفع ولا صكوك، بل أوراق نقدية في حالة يرثى لها من كثرة تداولها، أموال بالملايين تنتقل من يد إلى يد في أكياس البلاستيك السوداء في أسواق السيارات وأسواق الرشوة والعمولات.
بمجرد وصولك إلى البلد ستجد نفسك وجها لوجه مع ثقافة هجينة فولكلورية، عداء للحداثة وهيام بالتحديث لا نظير له ومجتمع مدني يختنق، تحدثت مع تلاميذ في الطور الثانوي لا يسمعون عن الكاتب الجزائري الكبير كاتب ياسين ولا عن “نجمته”، وتحاورت مع أستاذة أدب لم تقرأ كلمة واحدة من أدب ألبير كامو، ولا تختلف كثيرا في رؤيتها للعالم مع أبو بكر البغدادي.
سيكون التعليم حتما في درجة الصفر حينما تعرف المدرسة في هذا البلد خلال سنة 2013 حوالي 60 ألف حادث عنف من بينها الاعتداء على 5 آلاف أستاذ، 200 منهم يمارسون مهنتهم في الطور الابتدائي، حسب إحصائيات نقابة المعلمين. ولم يعد خافيا على أحد أن يوميات المدرسة الجزائرية يتنازعها وباءان كلاهما مر: المخدرات والتسرب. وقد حدث ما كان منتظرا إذ قتل تلميذ زميله في مدرسة ابتدائية بالجزائر العاصمة يوم 18 ديسمبر الماضي، وهكذا أصبح واضحا أن المدرسة لم تعد ذلك المكان الآمن وكيف لها أن تكون وإضرابات المعلمين والأساتذة والإداريين لا تنقطع طوال الموسم الدراسي.
لا شيء يسير بطريقة سليمة ولا جزائري واحد تتحدث معه وتجده راضيا عن الوضع العام، ما عدا بعض الذين يستفيدون من حالة الرشوى المستشرية في كل الجسم الاجتماعي. كل من يزور الجزائر يتساءل عما إذا كان للسائقين في هذا البلد شيئ اسمه رخصة سياقة فلا قانون مرور يحترم ولا طرق صالحة ولا صبر ولا تأني ولا سلامة. يتضاعف عدد السيارات والحوادث والقتلى من سنة لأخرى، إذ سجل 44000 حادث سنة 2013 راح ضحيتها 5000 من الموتى و58000 من الجرحى.
فوضى عارمة يعرفها النقل العمومي الموكول للخواص، لا تذاكر ولا مواقيت. غابة يتقاتل فيها سائقو حافلات لا يهمهم سوى الظفر بركاب محتملين، إذ أصبح كل من هب ودب ينقل الناس دون مراعاة لأدنى شروط السلامة والحضارة مستعملا في بعض الأحيان مركبات مهترئة، شبه حافلات لا تصلح حتى لنقل المواشي.
وأنت تسافر من منطقة إلى أخرى أو تتجول بين المدن أو في الأسواق أو ترتاد المقاهي يخيّل إليك أن البلد مصاب بحمى حرب الجميع ضد الجميع. وتشعر حقا أن ليس هناك دولة أصلا وإنما هناك جماعات تحاول أن تحكم. وفي غياب أطر حديثة للحوار بين السلطات والمواطنين، يمكن لأي أمر مهما كان تافها أن يكون فتيلا لعنف ما أو احتجاج عنيف تقطع على إثره الطرق لأيام، وتحرق ممتلكات، وتنتهك أعراض.
إذا كان الأمر بهذا التوتر البادي في كل مكان والجزائر تعيش وفرة مالية لم تعرف مثيلها أبدا، تُمكّن الدولة من أن تنفق أكثر مما يسمح به اقتصادها، فكيف ستكون الأمور مع انهيار أسعار البترول وتقلص المداخيل في الأشهر القادمة؟ فلئن كانت تسجل أكثر من 10 احتجاجات مهنية واجتماعية وفئوية وجهوية في اليوم الواحد والجزائر في بحبوحة مالية وتنفق بلا حساب من أجل شراء السلم الاجتماعي، فكيف سيكون الأمر حينما تضطر هذه السلطة لإيقاف الدعم عن المواد واسعة الاستهلاك وتعيد النظر مضطرة في السياسة الاجتماعية بكاملها؟
*كاتب جزائري/”العرب”