ليس أمام مصر سوى التفرّغ للموضوع الليبي. في ليبيا، تستطيع مصر إثبات أن هناك ما تغيّر فعلا فيها بعد “ثورة الثلاثين من يونيو” من جهة، وأنّ هذا التغيير سيعني، أوّل ما يعني، أنّ في استطاعتها استعادة دورها الإقليمي من جهة أخرى. يحتاج ذلك إلى نجاح في الامتحان الليبي الذي هو أيضا امتحان للرئيس عبدالفتّاح السيسي. يُفترض بالمسؤولين المصريين ألا ينسوا في أيّ لحظة تاريخ “داعش” والدور الذي لعبه النظامان في سوريا وإيران على صعيد انتعاش هذا الوحش.
ما ارتكبه “داعش” في حق مواطنين مصريين موجودين في ليبيا يشير إلى أنّ هناك تحديات جديدة أمام مصر. فذبح 21 مواطنا مصريا في سرت، ذنبهم الوحيد أنّهم أقباط، يكشف حجم هذه التحديات التي توجب على مصر التصدّي للفكر الضال. التصدي للفكر الضال لا يكون بالسلاح فقط.
حسنا فعل الرئيس السيسي بإرسال طائرات مصرية قصفت مواقع تابعة لـ“داعش”. كان لابدّ من ردّ فعل سريع يطمئن المصريين إلى وجود دولة تتجاوب مع مشاعرهم في الأوقات الحرجة، خصوصا عندما ينتابهم شعور باليأس في مواجهة تنظيم إرهابي مثل “داعش” وأخواته وإخوانه.
المهمّ الآن أن يكون هناك تجاوب دولي مع مصر، بما يجعل منها رأس الحربة في الجهود التي يبذلها العالم من أجل الانتهاء من الإرهاب بكلّ أشكاله. فما حدث في سرت كان جريمة مروّعة بكل المقاييس. تشير الجريمة إلى أن هناك من يخطط، ليل نهار، ليس من أجل الإساءة إلى الإسلام فحسب، بل من أجل إيجاد بؤر للإرهاب في كلّ منطقة عربية أيضا. هناك دور لم يعد أمام مصر مفرّ من لعبه. سيكون عليها حشد كلّ ما تمتلك من طاقات من أجل منع ليبيا من التحول إلى بؤرة للإرهاب تهدّد كل المنطقة.
في الواقع، ترك معمّر القذافي في الأراضي الليبية ما يكفي من مخازن سلاح لتهديد الاستقرار في كلّ الدولة المجاورة لليبيا أو القريبة منها. ولذلك، لم يتردّد المغرب الحريص على حماية مواطنيه وأمنه في منع الطائرات الليبية من التحليق في أجوائه. يدلّ هذا القرار المغربي على مدى خطورة الوضع في ليبيا، حيث لم يعد من أمل يذكر في قيام دولة ذات مؤسسات قادرة على محاربة الإرهاب.
تجعل التركة الثقيلة لنظام القذافي من تحسين الوضع الليبي أمرا شبه مستحيل. فالقذافي عمل كل ما يستطيع من أجل تهديم مؤسسات الدولة، والقضاء على النسيج الاجتماعي في ما سمّاه “الجماهيرية العربية الاشتراكية العظمى”. ليس معروفا إلى الآن ماذا تعني كلمة جماهيرية. لم يتأكّد ما إذا كانت للقذافي علاقة بأي قضية عربية، باستثناء لعبه لدور تخريبي في أي مكان امتدت يده إليه. أكثر من ذلك، لم يتبيّن يوما أن للقذافي علاقة بالاشتراكية، وأيّ مفهوم من مفاهيمها باستثناء إفقار المواطنين وحرمانهم من العلم والمعرفة خدمة لبقائه في السلطة ولا شيء آخر غير ذلك.
الأخطر من ذلك كلّه، أن الذين خلفوا القذّافي تصرّفوا بطريقة تصبّ في القضاء على أي أمل في إعادة بناء دولة. هناك قوى خارجية معروفة استثمرت في الميليشيات المسلّحة التي تعتمد الفكر المتطرّف وتروّج له بغية الحؤول دون قيام دولة مدنية في ليبيا. هناك بصراحة من استثمر في الإخوان المسلمين، ومجموعات أخرى لم يكن لديها همّ سوى تفتيت ليبيا وتحويلها إلى قاعدة لـ“القاعدة” وما شابهها.
من استثمر في الإخوان المسلمين ومن يروّج لفكرهم أراد أن تكون ليبيا منطلقا لتهريب السلاح وتسلّل العصابات الإرهابية إلى مصر وتونس والجزائر، وكل المنطقة المعروفة بالساحل الأفريقي، وصولا إلى مالي وإلى أبعد من مالي.
بات على مصر تحمّل مسؤوليات كبيرة. إذا لم تلاحق المسؤولين عن المجزرة التي تعرّض لها جنودها داخل الأراضي الليبية، سيكون عليها مواجهة عصابات آتية من ليبيا في الداخل المصري. هذا ما حصل قبل فترة، عندما تعرّض رجال أمن وعسكريون مصريون لاعتداءات نفّذها متسللون من ليبيا. ترافق ذلك مع هجمات على قوات الأمن في سيناء التي يوجد من يريد تحويلها إلى مصدر قلق لمصر، خصوصا منذ أزاح الشعب المصري نظام الإخوان المسلمين قبل ما يزيد على سنة ونصف سنة. هناك، بكلّ بساطة، جبهات عدّة فتحت من أجل منع مصر من استعادة عافيتها ولعب دورها الطبيعي.
إلى الآن، تصرّف الرئيس السيسي بما يوحي بأنّه يستوعب حجم التحديات. لعلّ أكثر ما يستوعبه أن استخدام القوّة لابدّ أن يترافق مع جهود من أجل إصلاح الخطاب الديني وتطويره. لذلك كانت دعوته إلى الأزهر من أجل ثورة حقيقية في هذا المجال في وقت يمارس “داعش” كلّ ما من شأنه تشويه صورة الإسلام. لم يكتف السيسي بالطلب من الأزهر لعب دور طليعي في التصدي للفكر الإرهابي المتخلّف، بل انفتح على الأقباط وتصرّف بما يؤكّد أنّه رئيس مصر بكلّ مكوناتها، وأنّ لا فارق بين مواطن قبطي ومواطن مسلم.
مرّة أخرى يتبيّن أن التوازن الإقليمي في حاجة إلى مصر. من ساعد الشعب المصري، من العرب الشرفاء، في مواجهة محنة حكم الإخوان أدرك، باكرا، أهمّية الرهان على مصر في ظلّ الهجمة التي يتعرّض لها الإقليم كله.
بات ضروريا دعم مصر في المحافل الدولية خصوصا في مجلس الأمن كي لا تكون الحرب على “داعش” حرب مصر وحدها. ثمّة حاجة إلى نقلة نوعية في تفكير المجتمع الدولي على الصعيد الليبي. لم يكن الانتهاء من نظام القذافي وجماهيريته سوى بداية. هناك حاجة، اليوم قبل غد، إلى مقاربة شاملة للأزمة الليبية تضع حدّا لفجور الميليشيات المتطرّفة التي تقاتل الجيش الليبي.
الأكيد أن مصر ستكون قادرة على حماية نفسها. لكنّ الأكيد أيضا أن لابدّ من البحث عن حلّ جذري يقضي على مخطط تحويل ليبيا إلى بؤرة للإرهاب والإرهابيين. مصر مهمّة في مجال لعب هذا الدور، لكنّ نجاحها متوقّف على الدعم الدولي لها وعلى استيعاب المجتمع الدولي أن ليبيا لم تعد خطرا على مصر ودول الجوار وكل منطقة شمال أفريقيا فحسب، بل هي خطر على أوروبا أيضا، خصوصا أنّها على مرمى حجر من إيطاليا.
كان التخلّص من معمّر القذّافي بداية لابدّ منها. لكنّ نهاية المأساة الليبية تفرض العودة إلى البداية، أي إلى تدخّل دولي ينقذ ليبيا وينقذ المنطقة كلّها من شرّ تحوّلها إلى قاعدة لـ “القاعدة”.
*إعلامي لبناني/”العرب”