رغم كل الحزن الذي انتابني لحرق الطيار الأردني، والألم الذي أصابني لمأساته، لم أكتب بشأنه، لا لأنني لم استنكر الجريمة النكراء التي أشجتنا وفجعت الأشقاء الأردنيين وأحزنتهم، ولكن في صدري أكثر من غصة، فقد قتل وحرق من شعبي الكثير واعتدت صور الفتك والحرق، وداعش حين تقتل وتحرق موسومة بوحشيتها وهمجيتها منظمة إرهابية، والأردنيون ردوا وأخذوا ثأرهم، فمن يثأر لشعبي الذي أحرق منه أربعمئة وثمانية فجر يوم عيد الحب من جميع الأطياف، عرب وأكراد وتركمان، مسلمون ومسيحيون، كلهم مدنيون لا شأن لهم بالحرب، رجال ونساء، شيوخ وأطفال وصبايا، لم يثأر لهم أحد، ولم تحقق بجريمة حرقهم محاكم دولية ولا اقليمية، ولم تتخذ منظمات حقوق الإنسان إجراءات جادة لبلورة موقف يتناسب وحجم مجزرة فريدة من نوعها، ولم يواس الإعلام العالمي العراقيين ولم يشاطرهم المأساة، ومازال الصمت يلف المشهد، فلله درك ودر صبرك يا عراق.
كم من العرب والمسلمين يتذكرون اليوم كارثة قصف ملجأ العامرية ببغداد، ليلة 13 يناير 1991، ويعرف قصته المرعبة، التي لو جرت لشعب أشقر لعدت من أعظم جرائم العصر إبادة ضد الإنسانية، ارتكبت عن قصد وتدبير مسبقين، واشتركت فيها دول متحضرة ونفذتها طائرات أعظم قوة في العالم تدعي التفوق بالحضارة والتمدن وأنها قلعة الحريات، وليست عصابات داعش الإرهابية، كانت الغربان الأميركية وقتها تعكر أجواء بغداد بهديرها المرعب، تقصف محطات الماء والكهرباء، والمراكز الحيوية، ودور المواطنين بلا رحمة، ولم يعد بيد المدنيين البغداديين غير الالتجاء إلى الملاجئ المحصنة هربا من هول الغارات ومشاهدها. ذبذبات راديو تلقفتها غربان الشر فبادروا يتناجون سنحرق صدام حسين ومن معه، فأحرقوا الآمنين الأبرياء وتركوهم بقايا أجساد مشوية ملتصقة بالجدران والأسلاك والقضبان، صور لم تزل محفورة لا تبرح الذاكرة، ورغم كل السنين التي مرت لا أتمالك دموعي، كلما استرجعت مخيلتي صور الوليمة الرسمية لشواء اللحم البشري، وكيف طبخ وقدم للمجتمع الدولي على مائدة الافطار في عيد الحب؟
الملجأ رقم “خمسة وعشرون” المحصن ضد الضربات النووية والأسلحة غير التقليدية الكيماوية والجرثومية والإشعاع يحتضن المئات. والدول العظمى لديها فكرة عن الملاجئ ومواقعها، والطيارون لا يخطئون الإشارات على الأسطح وأنها ملاجئ مدنية يمنع قصفها وفق القوانين الدولية والإنسانية. ولكن المعتدين، هم وحدهم يمتلكون الأعذار يختلقونها ويستحقون الحياة ولا يسألون عن ضحاياهم! فجأة مع الأذان والصلاة، تحلق طائرتان أميركيتان أف 117 فوق الملجأ، وبعد دورتين حوله، تقصفه بقنبلتين ذكيتين نوع جي بي يو 37 موجهة بالليزر، عيار ألفي رطل، الأولى حلزونية أوهنت السقف والثانية ثقبته، وتلتها قنابل حرارية حولت الملجأ إلى فرن، شوى جميع من كانوا فيه وصهر لحومهم وعظامهم، مئة وإحدى وستون امرأة، واثنان وخمسون رضيعا، والبقية صبيان وصبايا بعمر الورود بينهم 36 عربيا، فالملجأ مخصص للأسر دون الرجال، وعاش آباء وأمهات لم يعد بمقدورهم الانجاب ثانية لحظات حرق أبنائهم في مشاهد لا تشبه إلا جحيم جهنم، واستحال على من في الملجأ الخروج، فطالتهم نيران الغدر، التصقت أجسادهم ببعضها وتبخرت دماؤهم لتغيب عن ناظر وسمع العالم كل معاني الرحمة والمشاعر الإنسانية، رقدت عيون الظالمين وعيون المظلومين لم تنم، وستظل كارثة ملجأ العامرية رمزا لغدر الأقوياء وعمالة الأغبياء.
ذريعة الأميركان أنهم اشتبهوا بوجود قيادات عراقية داخل الملجأ، لوجود مراسلات إذاعية داخله، وخاب سعيهم وسقطت ورقة التوت عن عورتهم، أنكر الرئيس الأميركي بوش الجريمة ثم اعترف بها ولكن بعد اربع وعشرين سنة ماذا فعلت أميركا للضحايا؟ هل تعاطفت قياداتها مع ذوي الضحايا الأبرياء؟ أو عوضت احدا منهم نتيجة خطئها الفادح؟ وهل يمكن لدولة عظمى أن ترتكب مجزرة إنسانية كهذه تحت أي ظرف ومهما كانت الذريعة؟ مئات صهرت النار أجسادهم وهم نائمون، ولم يؤرق ليل الغربيين طارق ليل، لم يتأس احد منهم لأرواح ضحايا هاربين من جحيم الموت إلى السلام والأمان فلحقتهم الطائرات الأميركية لتقصفهم في أماكن محرمة فقتلتهم غدرا وما أسفت! وهل أسفت أميركا وحزنت لضحايا غزة ومخيمات اللاجئين في لبنان، أو استنكرت مجازر صبرا وشاتيلا؟
تاريخ أسود تحكيه حروف بلون الدم المتعفن ومخططات بشعة دبرت بدهاليز مظلمة على طاولات رئاسية وبئس ما دبروا، حركوا أصابع جهنمية لعينة، حاكت خيوط المأساة حسبما يشاءون ووفق ما يبتغون، لقد كان استهداف العراق جمجمة العرب ومخزن الرجولة الأول والأبشع فيها، وتركت لشعبه مخزونا من ذكريات الألم والحزن والخوف والرعب تغتسل بالدم والدموع وثقت بصمات المعتدين، وكل جريرته أنه شعب عربي جبار لا يقهر ولا يستسيغ الذل والهوان ولا يعرف الإرهاب، وإنما أراد البناء والانتصار لأمته فاغتاض الحاقدون ومكروا مكرهم.
“البلاد” البحرينية