عرفت العلاقات المغربية الفرنسية مؤخراً فتوراً دبلوماسياً لأسباب عدة لا يتسع المقام لذكرها جميعاً. ولعل تلك الأسباب هي أن الدولة الفرنسية تتجاهل أن من حق الدول التي رسمت مساراً سياسياً واقتصادياً منفتحاً ولها جذور تاريخية أن تبحر في علاقاتها التجارية والاقتصادية مع كل من تراه مناسباً. فرنسا مازالت تظن أن لها كلمة السبق في المشاريع الاقتصادية التي تعرفها دول المغرب العربي ومستعمراتها القديمة في القارة الأفريقية، وأنها بالإمكان أن تصبح حاضرة كحامية لمصالحها ومصالح الخاص والعام، وهذا غير ممكن وهذا ما بدأت تفهمه النخبة الفرنسية.
المغرب اليوم بدبلوماسيته القوية وباستقراره السياسي يطرق أبواب أمصار نائية في علاقاته المختلفة وهذه قاعدة من قواعد العولمة اليوم للبقاء والنماء والتطور. ولا عجب في ذلك، فللمغرب موقع جيوستراتيجي كدولة مغاربية وعربية تقع في شمال أفريقيا وبقيت لقرون صلة وصل بين ضفتي المتوسط وبين أوروبا وأفريقيا.
والمغرب كان في القدم عاصمة علمية تضاهي قرطبة في الأندلس، ومركزاً دينياً للفقه المالكي الذي اختاره المغاربة واستقروا عليه ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري، حتى غدا من أبرز ظواهرهم الفكرية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. واكتسبت مدينة فاس مركزية لا توصف، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، ولكن للعالم الإسلامي كله، إذ غدت قبلة الفقهاء الوافدين إليها بأفواج كبيرة من كل حدب وصوب، لاسيما من القيروان والأندلس أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل الثالث، على نحو ما يحكي التاريخ عن وفود القيروانيين والأندلسيين الذين كانوا في معظمهم من الفقهاء المالكيين، ووفود اليهود الذين اضطهدوا في الأندلس، والرحالة والطلبة والعلماء من كل الديانات على نحو ما يُذكر عن قدوم «جربير»، الذي هو البابا «سلفستر الثاني»، إذ يُقال إنه زار فاس بعد منتصف القرن العاشر الميلادي، وأخذ الحساب عن علماء القرويين، وإنه هو أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا.
ونوعية هذه الشخصية المغربية هي التي تسمح للمغرب بخلق علاقات اقتصادية ومالية وتنموية واجتماعية مع كل دول العالم من دون استثناء، بل وإننا حتى إذا أخذنا مثال أميركا اللاتينية البعيدة عن المغرب جغرافياً، فسنرى إرثاً تاريخياً مشتركاً. إذ يعود تاريخ اللقاء بين المغرب والمنطقة الأميركية اللاتينية إلى نهاية القرن الخامس عشر عندما حل الغزاة الإسبان والبرتغاليون بالعالم الجديد. وقد أكد المؤرخون وجود رجال ونساء «موريسكيين» من بين مجموعات الغزاة. فكان أغلبهم أصحاب صناعة أو رؤساء وآخرون ملقبون بـ «العبيد البيض» الذين استخدموا كمرافقين للغزاة الإسبان. كما انتقلت أيضاً الثقافة الأندلسية عبر البرتغاليين والإسبان أنفسهم، المنتمين غالباً إلى الأندلس أو «إستريمادورا»، وهي المناطق التي ازدهرت فيها الحضارة الأندلسية، لما يقارب ثمانية قرون، واختلطت مع ثقافات وديانات أخرى.
ولازالت آثار هذا الميراث حاضرة إلى اليوم في أغلب بلدان هذه المنطقة. فالفن المعماري المعروف عموماً بالفن الموريسكي، (والذي يمكن أن نسميه الفن «المدجن mudéjar» باعتباره مزيجاً إسبانياً إسلامياً، لا زال بادياً في الكنائس والأديرة، في الباحات والحدائق، وفي النوافير والأبراج، وفي الأسقف الخشبية والشرفات، ولكن أيضاً في الأقواس والقباب شبه الدائرية وفي تزيين الحلي.
وما بين 1810 و1930، نحو 1000 عائلة يهودية تنتمي إلى طنجة وتطوان وأصيلة والعرائش، عبرت المحيط الأطلسي بسبب ازدهار صناعة المطاط ووجود خط بحري يربط طنجة بمدينة «بيليم» في البرازيل. وستلي هذه الموجة الأولى من الهجرة موجة ثانية في أواسط القرن الماضي، حيث سيستقر نحو 20000 مغربي ناطق بالإسبانية في كل من فنزويلا وتشيلي والمكسيك وأيضاً في كوبا وجمهورية الدومنيكان.
لكن وقبل هذا وذاك، هناك حلقة أخرى غريبة شيئاً ما وسمت لقاء المغرب مع غابة الأمازون، ويتعلق الأمر بـ «المدينة التي عبرت المحيط الأطلسي». (انظر بهذا الصدد قصة لوران فيدال «مازكاو Mazagao)، “المدينة التي عبرت المحيط الأطلسي من المغرب إلى الأمازون”. ففي سنة 1729، عندما عجز 2000 لاجئ برتغالي في قلعة مازاكان (الجديدة حالياً) مواجهة الجيوش المغربية التي أتت لتحرير المدينة، حاول هؤلاء البرتغاليون نقل المدينة وسكانها إلى الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي في الأمازون البرازيلية. وهكذا ستتأسس مازاكان برازيلية جديدة (Villa Nova de Mazao) على أحد روافد نهر الأمازون، وهي توأم مازاكان المغربية.
*رئيس المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية/”الاتحاد” الاماراتية