-1-
هل كانت للفنان وضعية اجتماعية معينة ؟
في أوروبا اعتبر الفنان التشكيلي حتى نهاية القرون الوسطى مثل أي عامل مهني أو حرفي (واعتبر الفن في بعض الأحيان عملا للعبيد) نظرا لما يتطلبه من جهد جسماني في إعداد المواد المستخدمة، ومن تنفيذ العمل الفني نفسه، في نفس الوقت الذي اعتبر بين الشعراء أولياء قريبين للملوك والأمراء والوزراء.
“ومع التطور الاقتصادي، وظهور البرجوازية المالية في المدن، بدأ شعور الفنانين بالغربة، وانطلقت تورثهم ضد المجتمع الذي لا يقدرهم حق قدرهم وبدا ظهور الفنانين المنبوذين البوهيميين.
وبالانقلاب الذي أظهر في الفن ذلك التأثير الديناميكي كتعبير عن القلق والحركة والتطور، تبلورت العلاقة الشخصية بين الفنان وعمله، ثم ظهرت النقابات الفنية لتنظيم المنافسة بين الفنانين (1).
وبانتشار النهضة في أوروبا، ارتفع الفنان لأول مرة عن الحرفية، وأصبحت له مكانته الاجتماعية التي أهلته ليصبح أحد الوجوه الحضارية لأوروبا الجديدة.
وبالنسبة للمغرب، وللعالم العربي قاطبة، لم تترك لنا وثائق التاريخ التي تحدثت لنا بإسهاب عن الإبداع والتطور العيشي في ظل الإسلام، والحضارات التي سبقته، أي إشارة، أو سيرة أو تقييم علمي لفنان معين.
فالفنان المغربي، والعربي عموما سواء قبل الإسلام أو بعده، وسواء في الحضارة الأندلسية التي أتت لنا بالكثير في الفنون التشكيلية الجديدة، أو في حضارة المشرق العربي، لم يكن للفنان ذكر، ومن ثمة، كان وضعه الاجتماعي، لا يزيد عن وضع أي حرفي ، أو عامل من الدرجة الثانية..
وعلى أن عصور النهضة في أوروبا، قد أكرمت العديد من الفنانين المرموقين أمثال ليوناردو دافنشي، الذي ارتفع من فنان حرفي في فلورانسا، إلى الصديق المفضل لملك فرنسا في آخر حياته، وكذلك بالنسبة لرافاييل الذي عاش في قصر خاص، وميكلا نجلو الذي تحدى النبلاء وتعالى على طبقتهم، فإن العديد من الفنانين المغاربة الذين لم يحفظ لنا التاريخ أسماءهم، استطاعوا العيش في الظل بقصور الأمراء والملوك والنبلاء والوزراء.
وقد ترك لنا التاريخ في هذا الصدد وثائق تؤكد أن ملوك الدولة الموحدية، والمرابطية، والعلوية، سهروا بأنفسهم على زخرفة بعض القصور، والمساجد، والمدارس التي حملت أسماءهم، وكانوا في إطار هذا “السهر” يتخذون من بعض الفنانين أصدقاء أقرباء لهم، ولحاشيتهم، إلا أن هذا لم يحرر فناننا المغربي من الحرفية، بل إن ” علاقته بالطبقات العليا” فرضت عليه انعزالية خاصة ملأت حياته بالصراعات الداخلية وبالتناقضات المعقدة التي انعكست على إنتاجه الزخرفي والهندسي.
وباعتبار أن الفنان المغربي قد عاش دائما في ظل الأنظمة الإقطاعية، فإن الفن قد تحول عنده إلى مجرد “سلعة” قابلة للاتجار، والمساومة، خارجة عن كل الاعتبارات العاطفية والشعورية والثقافية التي تكون إحدى صفات الإنسان الفنان.
ومن ثمة فإن الإنتاج الفني المغربي الذي بقي محفوظا في القصور والمساجد والزوايا، والدور، لا يمكن إخضاعه إلى الاتجاهات الفنية التي تولدت مع الصراعات والتطورات الاجتماعية التي عرفتها البلاد الأوروبية بعد القرن الخامس عشر.
ومن ثمة أيضا، فإن هذا الإنتاج الفني على روعته، وجماله، لم يكن في يوم من الأيام معبرا عن حياة الشعب المغربي، أو عن همومه وقضاياه ومشاكله، ذلك لأنه كان باستمرار ملكا للإقطاع.
-2-
إن التقرير الذي رفعته الجمعية المغربية للفنون التشكيلية للمؤتمر الأول للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب المنعقد ببغداد يترك لنا وثيقة هامة في هذا الصدد، إذ جاء في هذا التقرير، أن الإبداع التشكيلي في المغرب العربي يريد أن يتجدر في الطموحات الوطنية والعربية، وكذا في التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا دون إهمال التطورات التي تجري في الفكر والفن، ولا يريد هذا الإبداع أن تكون له أية وظيفة سوى المشاركة في الكفاح العام للوطن العربي عن طريق الآثار الفنية نفسها، وعن طريق العمل الفني المبدع الخلاق الذي حمل آفاق المستقبل.
الاختيار واضح : أنه المساهمة الفعالة اللامحدودة في كل هذه الواجبات واختيار وسائل تغيير الواقع المفروض.
لقد كان للرسامين والنحاتين فضل السبق، في أن يجعلوا الفن التشكيلي يتعدى مجرد كونه هواية، وظيفتها تزجية الوقت، وهم أيضا أول الذين فتحوا باب الاجتهاد، وبذلك تبوءوا الصفوف الأولى في معركة البحث والانعتاق، إنهم أكثر من غيرهم، أبرزوا المنابع الثرية للتخيل ” الأرضية الخصبة للخلق العلمي”.
إن قيمة الأجيال الفنية الجديدة تكمن في أنها تشارك بقوة، لا فقط لتصحيح الرؤى الفنية، بل لتغيير تصورنا للعالم (2).لكن، وفي نهاية المطاف فإن العمل الفني كوسيلة تواصل ورسالة كما قال مارشال ماكلوين ومن غير الممكن في أي حال من الأحوال أن تلزم عملا ما بان يكون على درجة كبرى من الوضوح منذ البداية، أو أن يكون له نفع متناسب مع واقع الظروف.
يعني ذلك بوضوح، أن الفنانين المغاربة يطمحون إلى تركيب حدث تشكيلي عبر مواجهة الفكر النقدي لتحقيق هذه المرامي يترجل الفنانون فوق ارض ثقافية حية ويخدمونها بكل وعي، أي أن الثقافة ينبغي أن ينظر إليها كوسيلة ذاتية للتأثير على الطبيعة والإنسان دون الانزلاق في مهاوي الانقسام الممكن، وهذا ليس بحثا عن صيغة متقلصة، بل إنه تنشيط للكائنات والأشياء والأفكار.
في اللحظة التي لا يستطيع فيها لا المغرب ولا العالم العربي التهرب من مصيرهما عن طريق مشاهدة شريط تاريخهما والاندفاع نحو النبع قصد انتهاج ( المسيرة التاريخية النافعة) فان الفنون التشكيلية تشهد بحيويتها أنها حاضرة أمام التساؤلات وتركز طاقاتها للمشاركة في المشروع الهائل إلا وهو البناء الحضاري الجديد.
وبفضل استقامة قلة من الفنانين، فإن المبدعين المغاربة لا يمكنهم التهرب من المشاكل الحيوية الأساسية وبالتالي فان الرتابة والتكرار والتهديد تنفضح لأنها لن يعود لها في الزمن الراهن، أن تعتمد على مركب الصمت والفراغ (3).
-3-
السؤال الذي تطرحه أمامنا هذه المراجعة، هل استطاع الفنان التشكيلي المغربي، الخروج من مرحلة العامل الحرفي الى مرحلة الفنان المبدع…؟ هل استطاع تغيير واقعه بواقع جديد، قائم على التقدير والاحترام، أم أن المجتمع ما زال ينظر إليه خارج القيم الإبداعية والثقافية…”
هـــوامش :
(1) الفن في خدمة الراسمالية، للاستاذ فريد كامل، الطليعة عدد 10 اكتوبر 1965.
(2) العلم الثقافي 11 ماي 1973.
(3) المصدر السابق
*كاتب صحفي