كم هي مروعة المذبحة التي استهدفت مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية وسقط فيها 12 قتيلاً بينهم ثمانية صحفيين، وقد لا تكفي عبارات الشجب والإدانة للرد على هذا العمل الإرهابي الجبان الذي أنزل الصدمة بفرنسا، وأثار المخاوف من ردات فعل غير محسوبة على المسلمين خاصة، بعد أن تأكد أن منفذي الجريمة ينتمون إلى تنظيم متطرف وينحدرون من أصول عربية.
السلطات الفرنسية لا يبدو أنها فوجئت بهذا العمل الإجرامي، فقد كانت تتوقع حدوث فعل كهذا، وتحسبت له باحتياطات أمنية مشددة على المواقع الحيوية، ولكن الإرهابيين باغتوها بمهاجمة “شارلي إيبدو” المهددة أصلا منذ سنوات لتورطها في نشر رسوم مسيئة للإسلام ورسوله الكريم، بذريعة حرية الرأي والتعبير . وبالقدر الذي يتم به رفض أي إرهاب يهدد حرية الرأي النزيه، يجب أن يتم أيضا رفض أي إساءة للأديان مهما كانت، كما يجب أن تستبدل لغة الاستفزاز وإهانة مشاعر أتباع الأديان بلغة التآخي والسلام وجعل الدين ورموزه في مقام مقدس، ليعم على الأرض السلام وتسود المحبة بين الأمم المختلفة بعيداً عن الضغائن والأحقاد المتبادلة.
من المخجل جدا أن المجرمين الثلاثة الذين قاموا بذبح الأسرة الصحفية للمجلة الفرنسية فعلوا فعلتهم المنكرة، وهم يهتفون “الله أكبر”، زاعمين أنهم انتقموا للرسول، صلى الله عليه وسلم، ممن أساءوا إليه، ولكن ما فات هؤلاء القتلة أنهم ضاعفوا الإساءة للرسول ودشنوا بجريمتهم حملة جديدة ربما تكون أكثر أذى مما سبق . فصبيحة جريمة باريس أعادت صحيفة دنماركية نشر الرسوم المسيئة التي سبق أن نشرتها “شارلي إيبدو”، ومن المتوقع أن تنشط صحف ومنابر في توسيع هذه الإساءات، وقد تتعرض مراكز إسلامية وشخصيات معتدلة للاعتداء والاضطهاد . أما أسوأ تداعيات هذ المذبحة، منحها اليمين المتطرف الصاعد في فرنسا والغرب عموما فرصة ذهبية لتعزيز حضوره تقربه من السلطة في غضون سنتين على الأقصى . فصعود اليمين يعني كثيراً من التضييق على ملايين المسلمين الذين يعيشون في البلاد الأوروبية تحت هاجس الشبهة بالإرهاب بسبب ضلال فئة جاهلة من أتباع دينهم، فضلاً عن أن ذلك سيرسخ لدى الرأي العام الغربي أن التشدد سمة في الإسلام وليس نهجاً لقلة قليلة من أتباعه، وشيوع هذا الانطباع لن يحل المشكلة مطلقاً بل سيفاقمها ويدفع بها إلى منعرجات أشد خطورة وترويعاً قد تكرر صور الأعمال الإرهابية في أكثر من عاصمة أوروبية.
المذبحة التاريخية التي تعرضت لها الصحافة الفرنسية ممثلة في “شارلي إيبدو”، عبرة ثبتت أن لا مكان حصيناً أو بعيداً عن الإرهاب، وهذا الاستنتاج يفترض أن مقاومة هذه الظاهرة الخبيثة لا تتوقف على المستويين الأمني والعسكري، وإنما هناك ضرورة لإرساء صياغات جديدة لمفاهيم التعايش والحرية والحوار بين مختلف الأديان والحضارات، فبعض ما يعتبر في الغرب مادة للسخرية أو الانتقاد غير مسموح بها لدى أمم أخرى مثل المسلمين والعكس صحيح . فالمقدس يظل مقدساً وحرية التعبير، إن لم تحترم المشاعر والعقائد، فلا خير فيها . أما الإرهاب فهو قضية المجتمع الإنساني بأسره ومحاربته تقتضي تضامناً متعدد المستويات لاجتثاثه وسد ذرائعه حتى يكون العالم أكثر أمناً بالفعل، وينعم فيه الجميع بالعدالة والسلام.
*كاتب صحفي/”الخليج” الاماراتية