لطالما كان الاعتقاد أن ليبيا هي أكثر دول المنطقة انسجاماً اجتماعياً، وأن ليس فيها تباينات، فلا تعددية طائفية أو دينية ولا انتماءات عابرة للحدود ولا اختلافات جوهرية في الثقافة والعادات بين السكان.
لم يكن لأحد أن يتصور أن التركيبة القبلية التي كانت تحسب «فولكلوراً تراثياً»، يمكن أن تهتز بفعل سقوط نظام القذافي في 2011، وأن صيغة التعايش التي استمرت لأكثر من ستة عقود، ستكون مشرعة لرياح التدخلات الخارجية واستحضار الصراعات الإقليمية على الساحة الداخلية، عاملاً مفجراً للضغائن والأحقاد، حتى وصل الأمر بإبدال عبارة «حرب أهلية» بما تعنيه أساساً من أهوال، بمصطلح «حرب شاملة» الذي بات يستخدمه المجتمع الدولي في التنبيه من تطور الصراع.
من هنا، قد يبدو «الحسم العسكري»، إذا تيسّر، لأحد طرفي الصراع الحالي أسهلَ الحلول لإعادة فرض الاستقرار بـ «هيمنة الأقوى»، وبالتالي اصطفاف الغالبية خلفه، أو المضي في صراع مفتوح بما يؤدي بحسب التعبير الليبي إلى «نكت الشكارة»، أي نفض ما في الجعبة وبعثرة محتوياتها. لكن المخيف في الأمر هو أن الحسم قد لا يكون بديلاً من التوافق، بل مقدمة للتوغل أكثر في فرط العقد الاجتماعي.
استوقفتني الأسبوع الماضي، أنباء عن جهود بذلتها الجزائر لرعاية مصالحة بين قبائل التبو والطوارق في جنوب غربي ليبيا، وهي قبائل لها حضورها الراسخ في التاريخ الليبي وامتداداتها في الدول المجاورة. وليست مساعي الجزائر التي استقبلت وفداً من الطرفين بعدما تحوّل تعايشهما قتالاً، سوى تعبير عن مخاوف من انعكاسات القتال على وضعها الداخلي.
وهناك في الشرق الليبي من يذكر بثارات تاريخية بين القبائل على جانبي الحدود المصرية – الليبية، إضافة إلى محاولات مستجدة للتمييز بين «برقة البيضاء» و «برقة الحمراء» في إشارة إلى مناطق الشرق الشمالية وجنوبها الصحراوي.
وقرأت في الفترة الأخيرة مقالاً للسياسي الليبي المخضرم محمد بن غلبون، يحذر فيه من مخاطر التفريط بالوحدة الوطنية على غرب البلاد أو ما كان يعرف بإقليم طرابلس، والذي أشار إلى أن «تاريخه غير البعيد كان ممزقاً بالحروب الأهلية اللامتناهية بين اصطفافات قبلية»، أورد من بينها «صف البحر» (قبائل مصراتة وزليطن والخمس والعبادلة والفرجان والحسون ومعدان والمقارحة)، و «صف البر» (قبائل أولاد سليمان والقذاذفة وورفلة والحطمان وودان وهون) و «صف القبائل» (أولاد بوسيف والمشاشية وجادو وفساطو)، و«صف الزنتان والرجبان والمحاميد»، و«صف شداد» (العلالقة والبلاعزة والنوايل)، و«صف يوسف» (قبائل ورشفانة والعجيلات).
ولست متأكداً إذا كان السيد بن غلبون الذي أمضى جل عمره في المنفى على وفائه للعهد الملكي، تعمّد شيئاً من المبالغة في التحذير من تلك الاصطفافات للحض على التماسك والتكاتف، أم أنه يستشعر خطراً فعلياً على النسيج الاجتماعي الليبي.
لكن الأرجح أن طول أمد الصراع واتساعه الى حرب شاملة، لن يؤدي إلى تقسيم بين الأقاليم الثلاثة التي تشكلت منها البلاد فحسب، بل ينذر بظاهرة «تقسيم المقسّم»، وبالتالي حال من الشرذمة والتفكك التي لا يبدو أن المجتمع الدولي مستعد لدفع «أثمان باهظة» لتدخله لتفاديها، مع وجود قوى على الأرض من «أصحاب العقائد الدموية المتطرفة» التواقين إلى استدراج الغرب إلى مواجهة مباشرة.
بذلك تكمن خطورة دخول مصطلح «الحرب الشاملة» إلى قاموس الصراع الليبي، بما تعنيه من دمار شامل وفقدان للسيطرة على المقدرات وإفلاس في كل المجالات.
*كاتب صحفي/”الحياة” اللندنية