ربما يتفق الكثيرون على تشابه الحوافز السياسية والاقتصادية التي شجعت انطلاق ربيع البوعزيزي قبل أربع سنوات، وقد لا يختلفون على إخفاقه عموماً في تحقيق هدفه المعلن بنقل الشعوب العربية المقهورة إلى شاطئ الحرية والكرامة، لكن الخلاف لا يزال قائماً حول أسباب هذا الاخفاق والعوامل التي جعلت الأمل بغد مشرق وواعد، حاضراً منكوباً.
لا يخطئ من يرجع السبب إلى تخلف مزمن يعيق تحول غالبية المجتمعات العربية نحو الديمقراطية ويشل قدرتها على تمثل قيم الحرية، إن لجهة استمرار ظواهر الأمية والفقر والفساد وفشل خطط التنمية والتحديث الصناعي والتقني، وإن لجهة انحسار الفكر التنويري والوعي السياسي النقدي أمام سيطرة العقلية الغيبية والعصبيات الايديولوجية وإذا أضفنا عقدة النقص والخوف من التفاعل الحضاري مع الثقافات الأخرى، نقف عند أهم العناصر التي أفضت إلى ضعف القاعدة المجتمعية المؤهلة لدفع المسار الديمقراطي إلى الأمام ربطاً بضعف النخب السياسية والثقافية القادرة على قيادته وبعمق التشوهات التي طاولت بنية الدولة الوطنية ومؤسساتها، ما أفضى عيانياً إلى نزاعات واضطرابات واسعة في أكثر البلدان التي طاولتها رياح التغيير مع انكشاف أحشائها وانفلات قواها.
ويصيب من يضع المسؤولية الرئيسة على عاتق أنظمة الاستبداد، مرة بنجاحها عبر القمع الشديد والمديد في تدمير شبكات المجتمع المدني وتطويع التنظيمات الأهلية والنقابية والأحزاب السياسية، بما في ذلك إغلاق الفضاء الثقافي أمام حركة التفاعل النقدي وإخضاع آليات التفكير والتعليم للتلقين والتوجيه الايديولوجيين، وأيضاً سعيها المستمر لتغريب الناس عن المشاركة في إدارة حياتهم وحماية حقوقهم، وتلغيم وحدة المجتمع بتوليد شبكات من المصالح والارتباطات المتخلفة العشائرية والدينية والأثنية، ومرة ثانية، بإهمالها أسباب الربيع العربي واستهتارها بالحلول السياسية ورفض تقديم أية تنازلات تلتقي مع شعارات الناس أو تلبي بعض مطالبهم، والأنكى لجوؤها من دون رادع إنساني إلى أشد الوسائل عنفاً لوأد الحراك الشعبي وسحقه حتى لو كانت النتيجة إزهاق الأرواح وخراب البلاد.
بينما يرجع آخرون هذا الاخفاق إلى الدور السلبي الذي لعبته تيارات الاسلام السياسي التي وجدت الفرصة سانحة في ظل اتساع الحراك المجتمعي للوصول إلى السلطة متوسلة غياب قوى مدنية وسياسية منظمة تستطيع ملء الفراغ، لكنها فشلت في تلبية احتياجات الشارع الثائر وضمان حقوق الناس وحاجاتهم، بما في ذلك فشلها في حماية القيم الديمقراطية والوفاء للشعارات الوطنية والمدنية التي رفعتها، وقد عزز هذا الاخفاق تقدم الجماعات الجهادية المتطرفة التي أفادت من الفوضى وأتون العنف المذهبي المستعر، لتفرض حضورها متوسلة خطاباً إيديولوجياً أعمى يعمد من أجل إقامة «دولة الخلافة» إلى تحريم العقل والتفكير وإباحة القتل والذبح، وإلغاء معاني الحياة التعددية والتنوع.
ولا يخطئ أيضاً من يضع المسؤولية على عاتق قوى المعارضة السياسية التي اتضح أنها لم تكن على قدر المسؤولية وعجزت عن الارتقاء إلى مصاف شعارات الربيع العربي عن الحرية والكرامة، والأسباب كثيرة، منها تردد أهم تنظيماتها في نفض يده من ثوابت إيديولوجية وفكرية عفا عنها الزمن وتتناقض مع جوهر الفكر الديموقراطي، ومنها ما تعانيه من أمراض ذاتية خلفتها عقود طويلة من جور السلطات وظلمها، أعاقت ظهورها كمثل يحتذى وأشاعت صورة لقادتها تضج بخلافاتهم الشخصية وبالمصالح الحزبية الضيقة وظواهر الأنانية والاستئثار وأحياناً الفساد، ومنها أوهامها بتحقيق انتصارات سريعة، متوسلة منطق الغلبة ولغة السلاح ورهانات مؤسفة على دور الحكومات والأنظمة الداعمة لها في قلب توازنات القوى.
بينما ثمة من يضع اللوم في إخفاقنا على الخارج الدولي والإقليمي، ليس فقط عبر دوره التاريخي في تكريس التخلف وترك المجتمعات العربية نهباً للصراعات والنزعات المريضة كي تسهل السيطرة على مقدراتها، وإنما أيضاً بسبب تخوف مختلف الأطراف الخارجية من تأثير نجاح الربيع العربي على نفوذها، محبذة المجرب وخيار التعاون مع أنظمة الاستبداد ودعمها كطريق مضمونة لتأمين استقرار مصالحها، بخاصة أن كل طرف منها بات اليوم، مع ارتفاع حرارة الصراع على الهيمنة، أكثر تمسكاً بما يمتلكه من أوراق كي يحصن مواقعه ضد خصومه ومنافسيه.
والحال، فإن ما آل اليه الربيع العربي كان محصلة لتضافر تلك الاسباب مع تفاوت حضورها بين بلد وآخر، مؤكداً حقيقة أن طريق الديموقراطية شاقة وعسيرة وتعترضها عوائق وصعوبات جمة، وعادة ما تمر بمحطات مؤلمة ولكنها واعدة في آن معاً، ونسأل، ألم ينقض الربيع العربي، على رغم محنه وإخفاقاته، البنى المجتمعية والسياسية العربية نقضاً لا رجعة عنه؟ وألم تحدث قطيعة معرفية مع شتاء الاستبداد القاسي، ليغدو هذا الأخير في الوعي الجمعي العربي شكلاً مكروهاً لضبط حياة البشر وعلاقتهم بالسلطة ومؤسسات الدولة؟ أوليس هو الربيع الذي أسقط أنظمة وضعضع أخرى وجعل الانسان أكثر إدراكاً لحقوقه وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه الظلم الاجتماعي والقهر السياسي؟ ثم أليس هو الربيع الذي دشن مسار انحدار الاسلام السياسي، بشقيه المعتدل والمتطرف، وأفقده ثقة الناس كـ «بديل» أو «حل» لمعالجة مشكلاتها واسترداد حقوقها؟ والأهم، أليس هو الربيع الذي يبرهن كل لحظة أن طريق العنف قاصر ومكلف، وأن ليس من قوة مهما بلغت عنجهيتها يمكن أن توقف الزمن وتمنع التغيير؟!
ليس الغرض من إثارة هذه الأسئلة تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل لتوصيف واقع يؤكد أن مجتمعاتنا اليوم لم تعد مجتمعات الأمس، وأن ما يحدثه الربيع العربي، برغم مرارة النتائج، هو ثورة في المفاهيم والقيم وطرائق التفكير، ثورة تزيح الكثير من الأوهام المعششة في الأذهان، وتفتح طريق التحرر من الأفكار المسبقة والإيديولوجيات الصماء، ثورة تعبر بمجتمعاتنا من سباتها الطويل وتعيد للإنسان اعتباره، بصفته الهدف والغاية، والمحرك الرئيس لكل تحدٍ وتطور.
* كاتب سوري/”الحياة”