الديمقراطية داخل الأحزاب وفيما بينها في المغرب الأقصى حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي نموذجا

مقدمة:
حظي سؤال الديمقراطية بقدر وافر من الأهمية الفكرية والسياسية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين[1]. فقد بدا الوطن العربي وكأنه يكتشف لأول مرة قيمة الديمقراطية ويسعى إلى اختبار تأثيرها، علما أن مجتمعات عديدة جعلت منها لازمة التطور منذ قرون.
ولأن كان الاهتمام بالديمقراطية متزايدا على خلفية فهم طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم والسعي إلى إعادة بنائها نظريا وفكريا عسى أن تستقيم على صعيد الممارسة والتطبيق، فإن قصرا ملحوظا ظـل بارزا وملموسا بالنسبة للديموقراطية في غير ثنائية حاكم- محكوم كما هو حال مؤسسات المجتمع مـن أحزاب منظمات وروابط وجمعيات، بسبب أن الثقافة السياسية السائدة حولت موضوع الدولة واكتساب السلطة محور اهتمام النخب العربية ومناط تفكيرها، لذلك كان تأخر سؤال الديمقراطية في الدولة والمجتمع مضاعفـا ومعقدا.
تنطلق الورقة البحثية من فرضية انتساب الدول العربية، من حيث قضية الديمقراطية وما يتفرع عنها، لنفس الإشكالية وإن اختلفت مسارات التطور وتباينت تجارب الممارسة، فالوطن العربي يعاني، بدرجات متفاوتة، من عجز بين في موضوع الديمقراطية[2]، حيث لم تتحول هذه الأخيرة قيمة يتمثلها الناس، ويدافعون عن استمرارها، ويعتبرونها جزءا من كينونتهم وضرورة لوجودهم.
يتأسس على ما سلف أن الأحزاب السياسية، باعتبارها وسائل للمشاركة وآليات للتعاطي مع الشأن العام، تعكس بامتياز واقع سؤال الديمقراطية في النظر والتطبيق العربيين. فباسم التنمية والتحرر هيمن شعار “الثورة” على أداء جل الأحزاب العربية المعارضة، وأصبح طريقها إلى السلطة وامتلاك الدولة[3]، ولم يرد في خلدها أن هناك بدائل أخرى ممكنة، كما هو حال الانتخابات التنافسية، مما يفسر اكتشافها المتأخر للديموقراطية، ومع اعتمادها هذه الأخيرة خيارا ومقصدا غدا عصيا عليها الانخراط عميقا في دينامية التغيير الديمقراطي السلمي، بسبب ثقل ضغط منطق الثورة وصعوبة تجاوزه لامتلاك أسس ثقافة التنافس والمشاركة.
إن انتساب الأحزاب السياسية في المغرب الأقصى للإشكالية نفسها التي أطرت سؤال الديمقراطية في الوطن العربي وحكمت أبعاده ونتائجه، لن يحول منهجيا دون إبراز”خصوصيات” التجربة المغربية وعناصر تميزها في هذا المجال. فمن النقط القوية التي تستلزم فرز ما هو خاص عما ينتمي إلى المشترك ويتوحد معه جذور الفكرة الحزبية في المغرب وأسس ميلادها وطبيعة مسارها وأيلولتها ونوعية العلاقة التي ربطتها بالملكية ومؤسسة الدولة. بيد أن الانتقال من العام إلى الخاص والتشديد على أهمية فرز الثاني عن الأول حين نروم القيام بمقاربة علمية للأحزاب المغربية من زاوية واقع الديمقراطية داخلها وفيما بينها تقتضي تحديد مواصفات الحزب الديمقراطي وشروط وجوده و استمراره.

1- عرفت الموسوعة السياسية الحزب بالقول: “الحزب السياسي هو مجموعة من الناس ذوي الاتجاه الواحد والنظرة المتماثلة والمبادئ المشتركة يحاولون أن يحققوا الأهداف التي يؤمنون بها، وهم يرتبطون ببعضهم وفقا لقاعدة أو قواعد تنظيمية مقبولة من جانبهم تحدد علاقتهم وأسلوبهم ووسائلهم في العمل”[4].
ينطوي التعريف أعلاه على ثلاثة عناصر هي بمثابة المقومات الضرورية لنشوء الحزب وميلاده: جانب الفكر والإيديولوجيا التي تجمع الأعضاء وتصوغ مشروعهم السياسي، وعنصر الأهداف والمقاصد التي يناضلون من أجلها، ومقوم التنظيم الذي يعضد لحمة الحزب ويضمن تماسكه.
فالحزب خلافا لغيره من التنظيمات، يتأسس على جملة تصورات هي في حكم “العقيدة” بالنسبة للأعضاء، كما يقوم على أهداف جوهرها السعي إلى امتلاك السلطة وإدارة دواليب الدولة، علاوة على مبدأ التنظيم الذي يضفي على نشاطه قدرا من العصرية والعقلانية، بيد أن هذه المقومات لا تكفي كي يتمتع الحزب بميسم الديمقراطية ويوصف بها، فالديمقراطية قيمة وجوهر وليست شكلا أو مظهرا. والحال أن أحزاب كثيرة في الغرب والوطن العربي امتلكت مقومات النشوء فتطورت وتوسعت دائرة نفوذها، دون أن تنغرس الديمقراطية في ثقافتها وتغدو قيمة مشتركة لدى أعضائها، فقد شهدت أوربا -مهد الظاهرة الحزبية- تنظيمات وأحزابا أعاقت الديمقراطية وأشاعت التفكير الشمولي، وقتلت روح الاجتهاد والاختلاف، والحالة نفسها عاشتها المجتمعات العربية بدرجات متفاوتة ولازالت تتوق إلى الخلاص منها والقطيعة مع إرثها.
فكما أن للديموقراطية جوهر ومعنى، للحزب الديمقراطي بدوره مواصفات وضرورات. تتأسس الديمقراطية على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، واحترام حقوق الإنسان، يقوم كيان الحزب الديمقراطي على مبدأ الشرعية والشفافية الداخلية وقاعدة التعددية وآليات التداول على القيادة.[5]

لم تخل الكتابات التأسيسية حول الظاهرة الحزبية من التأكيد على المقومات اللازمة لـقيام الحزب ونشوئه والشروط الضرورية لامتلاكه صفة الديمقراطية[6]. فالجدل الحالي في الغرب تجاوز مستوى التساؤل عن مستلزمات الحزب ومواصفات الديمقراطية، بسبب قدم الفكرة الحزبية في مجتمعاته وانغراس قيمة الديمقراطية في الوعي والممارسة[7]. موازاة لذلك، نلاحظ وجود حاجة ملحة إلى ضرورة استعادة هذا النقاش في ضوء ما آلت إليه التجارب الحزبية العربية، سواء تلك التي كرست، باسم التنمية والتحرر، نظام الحزب الوحيد، أو التي دعت إلى التعددية دون التوفق في توفير شروط الاختلاف والتنافس، أو التي حولت الحـزب والدولة كيانا واحدا فشجعت على خلق قدر كبير من الانصهار والمماهاة بينهما.
فلكي يكتسب التنظيم صفة الحزب الديمقراطي يحتاج إلى شرعية تبرر وجوده وتضفي المشروعية على استمراره. فالتفاف الناس حول حزب ينضوون تحت لوائه، لم يكن مجرد نزعة عفوية أو نزوة دون معنى، بقدر ما كان خيارا إراديا وواعيا سعوا من خلاله إلى الدفاع عن جملة أهداف ومقاصد ومطالب، هي من قبيل المشروع المجتمعي الذي ترفعه شريحة أو طبقة وتناضل من أجل انتصاره. فالحزب هنا يستمد وجوده من حاجة الناس إليه، غير أن شرعيته تصبح ديمقراطية حين يلتزم على صعيد الممارسة، باحترام أسس التعاقد الذي أعلنت ميلاده، أي الدفاع عن المشروع المجتمعي الذي تكاتف أعضاؤه من أجل بلورته وصياغة محاوره، مما يعني أن الحزب كي يستمر ديموقراطيا ملزم باحترام حق أفراده في المناقشة والحوار والنقد والمساءلة والمحاسبة، وفق قوانينه الأساسية والداخلية، وبحسب التوجهات التي تشكل ثوابت هويته ووجوده.. وما دون ذلك ينزع عن الحزب صفة الديمقراطية ويحوله إطارا أو تنظيما ليس إلا.

والحزب حين يطالب بالديمقراطية– التي تعتبر التعددية أحد وجوه جوهرها- يكون ملزما بممارستها داخله. صحيح أن الحزب ليس ملتقى للنقاش أو ناديا مفتوحا، بل هو إطار مؤسس على مبدأ المركزية الديمقراطية التي تخول القيادة صلاحية صنع القرار بعد مناقشته وتداول حيثياته قاعديا، بيد أن الحزب كي تتـوسع دائرته، ويتقوى جسمه، ويتطور تفكيره، مطالب بإطلاق سيرورة الإختلاف داخل هياكله وبين أعضائه، عبر احتضان الاتجاهات ورعايتها وصيانة حقوقها في التعبير وإبداء الرأي، علما أن هناك فرقا بين ممارسة الاختلاف داخل الوحدة الحزبية، والاندفاع فيه إلى حد التناقض مع هوية الحزب وثوابت وجوده.. فالحزب الديمقراطي هو الذي يمتلك ثقافة إدارة الاختلاف والاعتراف بشرعية الاجتهاد.
كما أن من مقاصد الحزب، وهو يروم تحقيق الديمقراطية، إقرار قاعدة التداول على السلطة، فحيث أن السلطة تنبع عند تكون كل جماعة أو مجموعة،[8] والحزب صنف منها، فإنه مطالب، كي يكون ديموقراطيا، بإعمال المبدأ ذاته على نفسه، مما يعني احترام الحزب لدورية انعقاد مؤتمراته ومسطرة انتخاب قياداته محليا ووطنيا، وتجديد دوائر صنع قراراته، فالمطالبة بتداول سلطة لا تنصب على الدولة ومؤسساتها فحسب، بل تسري بالضرورة على الحزب وهياكله. فالحزب كالدولة مؤسسة مبنية على روح التعاقد، وحيث أن العقد يرتب على صاحبه حقوقا وواجبات، يغدو التداول على السلطة حقا يمارسه العضو بشكل شخصي وإرادي، دون تفويت أو تفويض.
2- يرجع تاريخ الفكرة الحزبية في المغرب الأقصى إلى بداية الثلاثينيات من القرن الماضي (1934). ولربما كان المغرب بعد تونس[9] من الدول العربية الأولى التي شهدت ميلاد الأحزاب ونشوءها [10]، بيد أن للحزبية في المغرب ظروفا خاصة توضح سياق تكونها وطبيعة تطورها ومآلها. فالحزب لم يكن وليد مطلب اجتماعي، مدعوم من طرف شريحة أو طبقة اجتماعية كما حصل في الغرب، بل انبثق من ضرورة وطنية اشترطتها ظروف النضال ضد المستعمر والتعبئة من أجل التحرر واسترداد السيادة الوطنية[11]، الأمر الذي يفسر لماذا حمل أول تنظيم سياسي في المغرب اسم “الحزب الوطني” (يناير/ كانون الثاني 1937)، قبل أن يتحول إلى “حزب الاستقلال” (1943) حين شرعت النخبة الوطنية في إنضاج شعار الاستقلال والاستعداد للجهر به في وجه السلطات الفرنسية (عريضة 11 يناير /كانون الثاني 1944).
ثمة عنصران جديران بالإشارة عند تحليل تاريخية بروز الفكرة الحزبية في المغرب الأقصى. يتعلق الأول بالطابع التنظيمي الذي حكم شكل الحزب وهياكله، في حين يخص الثاني النزوع المبكر لدى النخبة الحزبية إلى الانشقاق. فقبل تأسيس الحزب الوطني، الذي سيتحول إلى حزب الاستقلال، أحدثت النخبة الوطنية تنظيما سريا (23 آب/ أغسطس 1930) هو بمثابة النواة الأولى لميلاد الحزبية في المغرب معتمدة هيكلا تنظيميا غير مألوف في التنظيمات الحزبية العصرية من قبيل “الزاوية” و”الطائفة” و”لجنة السافر” و”المسيرون”[12]. يضاف إلى ذلك عسر النخبة في إدارة اختلافها ودرء اللجوء إلى الانشقاق، حيث بعد سنتين من استبدال “التنظيم السري” بـ “كتلة العمل الوطني” سنة 1934، انشقت هذه الأخيرة على نفسها ليبرز مكانها حزبان هما “الحركة القومية” و”الحزب الوطني” دون أن يتأسس الانشقاق على مسوغات تبرر شرعية اللجوء إليه[13].
3- لقد ظل حزب الاستقلال منذ إحداثه عام 1943 محور العمل الوطني ومحركهـ كما ارتبط مطلب الاستقلال باسمه ونضال قادته، على الرغم من وجود تنظيمات سياسية إلى جانبه، كما هو حال “الحركة القومية” التي ستتحول إلى “حزب الشورى والاستقلال” (1946) والحزب الشيوعي المغربي. لذلك لم يكن عصيا عليه بناء شرعيته على خلفية قيادته معركة الاستقلال و استرداد السيادة الوطنية.. ألم يشدد زعيمه علال الفاسي في خطاب له في طنجة سنة 1956 قائلا: “ليس في المغرب إلا قوات ثلاث: أولا قوة الاستقلال، وثانيا قوة جيش التحرير، ثالثا قوة القصر، وإذا اعتبرنا جيش التحرير قوة من الحزب وإليه، كانت هناك في المغرب قوتان لا ثالث لهما: قوة حزب الاستقلال وقوة القصر أو العرش”[14] 4- نود الإشارة، في هذا السياق، إلى أن الشرعية في المغرب الأقصى لم تكن حكرا على حزب الاستقلال، بل تقاسمها مع المؤسسة الملكية بسبب قدم اندماج هذه الأخيرة واندفاعها في دينامية النضال الوطني وتعاقدها الضمني مع النخبة الوطنية حول شعار الاستقلال واسترداد السيادة، خلافا لما حصل في دول أخرى[15]. لقد استبعدت الحركة الوطنية الدخول في تفاصيل مشروع الاستقلال وجزئياته، كما استنكفت عن طرح أسئلة المستقبل لأسباب متعددة، قد تتعلق بطبيعة المرحلة التي استوجبت ترجيح مقاومة المستعمر، باعتبارها أولوية قصوى[16]. وقد ترتبط بحدود نظر النخبة ونوعية تفكيرها[17]. فهكذا لم تتساءل الحركة الوطنية عن طبيعة الدولة المرتقبة بعد الاستقلال، ونوع النظام السياسي، وسيرورة التحالفات بين مكوناتها، ومضمون التعاقد مع المؤسسة الملكية ئم ليشكل كل ذلك بياضات في تجربة الحركة الوطنية المغربية[18]التي مثل حزب الاستقلال محورها تفكيرا ومبادرة ونضالا، بيد أن الأسئلة التي استمرت معلقة، سرعان ما استعادت أهميتها مع الاستقلال والشروع في إعادة بناء الدولة الوطنية.
لذلك كان عصيا على النخبة الوطنية التي وحدها النضال ضد المستعمر أن تظل منسجمة ومتماسكة لحظة التفكير في صياغة مشروع بناء المجتمع الجديد، مما يعني الدعوة إلى استحضار الأسئلة الغائبة خلال مرحلة النضال الوطني والعمل على إيجاد أجوبة لها. فحزب الاستقلال الذي انتظم الناس حوله وانتصروا لشعاره في التحرر واسترداد السيادة لم يعد قادرا على تجديد شرعيته في الاستمرار إطارا للجميع، بل خلق داخل نخبته القائدة ومناضليه وعيا بضرورة التغيير من أجل تمثل حدث الاستقلال وإدراك أبعاده السياسية، فكان نتيجة كل ذلك الانشقاق الذي حصل في جسم الحركة الوطنية ممحورة في حزب الاستقلال وميلاد “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بتاريخ 25 يناير/ كانون الثاني 1959 والذي سينشق بدوره صيف 1972 ليخرج منه “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” عقب مؤتمره التأسيسي في يناير/ كانون 1975. لنقرأ فقرة من محاضرة أحد صناع التغيير، وأعمدة الدعوة إلى بناء الحزب الجديد، الشهيد المهدي بنبركة يقول: “..لقد حصلنا على الاستقلال كوسيلة لتحقيق التقدم والتطور ولبناء مجتمع جديد… ولكن بناء هذا المجتمع يتطلب إيجاد قيادة قوية.. لذلك فإن هذه الأداة لن تكون صالحة إلا بعد إحداث تحوير فيها، لأن حزب الاستقلال الذي صنع الأبطال والمكافحين أثناء معركته مع الاستعمار يجب أن يصنع الأبطال والمكافحين أثناء معركته من أجل بناء مجتمع جديد.. وهذا الواقع يجعلنا نشعر بضرورة إحداث انقلاب داخل حزبنا يجعله قادرا على القيام بمهمته الجديدة… فالواجب علينا أن نعمل لتكوين الأداة الجديدة… وهذه الأداة الجديدة هي حزب الاستقلال. بعدما يتجدد في تفكيره وأسلوبه وبرامجه..”[19].
الحاصل أن التغيير العمودي لم يتحقق داخل الحزب الاستقلال – وتلك ميزة ستطبع كل الأحزاب المغربية التي تكونت لاحقا نتيجة توترات وخلافات داخلية-بل وقع التغيير الأفقي، الذي بمحافظته على بنية حزب الاستقلال وهياكله وتفكيره وتوجهاته، أحدث حزبا جديدا إلى جانبه يقاسمه المشروعية التاريخـية والنضالية وينافسه في مسؤولية بناء مغرب ما بعد الاستقلال. فهكذا، سيشكل حدث انشقاق حزب الاستقلال وميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (25 يناير/ كانون الثاني 1959) أول شرخ في جسم الحركة الوطنية المغربية، سيقاس عمقه بمقدار قدرة الحزبين على إدارة الاختلاف بينهما وطبيعة الدور الذي سيقومان به في الحياة الدستورية السياسية المغربية.
تروم الورقة البحثية تحليل واقع الديمقراطية داخل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربيين و فيما بينهما، علما أن اعتماد هذين الحزبين عينة للدراسة لا يتعلق بنوع من الانتقائية التلقائية بقدر ما يـرتبط باختيار أملتـه ضرورات منهجية وموضوعية، فالحزبان ينحدران من رحم الحركة الوطـنية، ويعبران عن شرائح واسعة من المجتمع المغربي، كما طبعا الحياة السياسية قرابة نصف قرن من داخل المسؤولية أو من موقع المعارضة، علاوة على أن استمرار وجودهما فاعلين في المشهد السياسي المغربي المستقبلي أمر لا يجادل فيه اثنان.
كيف ستقارب الورقة موضوعا على درجة بالغة الأهمية كما هو حال الديمقراطية؟ نقترح في العنصر الأول تحليل واقع الديمقراطية داخل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبر سؤالين مركزيين: كيف نظمت النصوص الأساسية والداخلية الديمقراطية وضبطت آليات اشتغالها (أولا)، ثم ما هو موقع الديمقراطية على صعيد التطبيق والممارسة؟ (ثانيا). في حين نفحص في العنصر الثاني طبيعة الديمقراطية بين الحزبين: كيف تم تمثلها ثنائيا؟ (أولا)، وكيف مورست في إطار هيئات و مؤسسات العمل المشترك؟ (ثانيا).

العنصر الأول: الديمقراطية الداخلية بين النصوص والممارسة

لم يحظ موضوع الديمقراطية الداخلية من طرف الأحزاب السياسية المغربية بنفس الاهتمام الذي حظي به مطلب الديمقراطية في الدولة ومؤسساتها. ولربما اعتبر الحديث عن هذا الأمر من قبيل تحصيل الحاصل، الأمر الذي يفسر لماذا ظلت أدبيات الأحزاب المغربية وإنتاجات نخـبها في موضوع الديقراطية الحزبية شاحبة ومحدودة[20]. ومع ذلك، نلمس عند قراءة القوانين الأساسية والداخلية المنظمة للأحزاب ما يفيد وجود مبادئ وقواعد تضمن للعضو إمكانيـة التعاطي مع الشأن الحزبي بقدر من الديمقراطية في التدبير والتسيير والتعبير عن الرأي، والمساءلة والنقد. بيد أن الديمقراطية تظل قيمة مجردة ما لم تتعزز بالممارسة. فهل تكفي قراءة النصوص الأساسية والداخلية لحزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للإقرار بوجود ديمقراطية داخلية؟ (أولا)، أم أن الأمر يستلزم مقابلة النصوص بما يجري في الممارسة ويعتمل في الواقع؟ (ثانيا).

أولا : قراءة في النصوص

نسجل بداية أن اعتماد النصوص وفحصها وقراءتها لا تكفي لرصد مكانة الديمقراطية الداخلية لحزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. فالنص يتعمق فهمه في علاقته بالمحيط الذي يطبق ويمارس فيه، كما قد يحدث في أحيان كثيرة أن تتكون على هامش النصوص ممارسات مكملة ومدققة لهذه الأخيرة، أو مشينة ومناقضة لها، وفي الحالتين معا تستمد القراءة النصية قيمتها من أهمية القانون في تدبير الشأن الحزبي وضبط مؤسساته.

1- حول مبدإ سيادة المؤتمر العام:

من الشائع قولا: “المؤتمر سيد”، مما يعني أن الحزب يستمد شرعية استمراره ومشروعية سلطته من المؤتمر، وحيث أن مؤسسة المؤتمر تتكون من الأعضاء الذين انتخبتهم أجهزتهم الإقليمية والقاعدية، ومنحتهم سلطة التقرير فإن المؤتمر يصبح نتيجة ذلك المرجعية الأساس في كيان الحزب و حياته، فهو الذي يرسم استراتيجيته، و ينتخب هياكله، وينظر في إنجازاته ونقائصه.. إنه السلطة التي لا مراد لقضائها.
(أ) فمن أصل تسعة وثمانين (89) فصلا أفرد القانون الأساسي لحزب الاستقلال ستة (6) فصول للمؤتمر العام، معتبرا إياه، في فصله الخامس والثمانين “السلطة العليا في الحزب، يقرر برنامجه وقوانينه وميزانيته العامة، ونشاط مختلف هيئاته”، كما حدد في الفصل السابع والثمانين دورية انعقاده على راس كل أربع سنوات، وأجاز فصله التسعون إمكانية عقد مؤتمر استثنائي كلما “دعت الحاجة إلى انعقاده و بجدول أعمال محدد”، باقتراح من اللجنة التنفيذية أو ثلثي أعضاء المجلس الوطني. أما على صعيد تكوينه فقد قضى الفصل السادس والثمانون بأن “يتركب المؤتمر العام للحزب من: الأمين العام للحزب، اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية وباقي أعضاء المجلس الوطني وكتاب الفروع المزاولين لمهامهم سنة انعقاد المؤتمر والمندوبين المنتخبين من طرف أعضاء المؤتمرات الإقليمية وأعضاء مكلفين بمهمة من طرف اللجنة التنفيذية بعد مصادقة اللجنة التحضيرية الوطنية على لائحتهم، على أن لا يتعدى عددهم 10% من عدد المندوبين المنتخبين”.
إن تركيب المؤتمر وإن كان مبنيا أساسا على مبدأ الانتخاب فقد سمحت مقتضيات القانون الأساسي ببعض الاستثناءات كما هو حال الأعضاء المكلفين بمهمة وبعض أعضاء الهيئات القيادية المومأ إليها أعلاه[21]. في حين تحدث اللجنة التحضيرية الوطنية المكلفة بالإعداد للمؤتمر العام على أساس الاقتراع حيث ينتخب المجلس الوطني في دورته العادية الأخيرة كافة أعضائه[22]. في حين تناط بالمؤتمر العام، علاوة على ما سبقت الإشارة إليه في الفصـل الخامس والثمانين، وظيفة انتخاب الهيئات العليا المقررة في الحزب، كالأمانة العامة وأعضاء مجلس الرئاسة ونصف أعضاء المجلس الوطني والمصادقة على النصف الآخر.
(ب): يشترك “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” مع حزب الاستقلال في مضمون بعض الأحكام المنظمة للمؤتمر العام، ويختلف معه في جوانب أخرى. فهكذا، نصت المادة 12 من قانونه الأساسي على أن “المؤتمر الوطني هو أعلى هيأة تقريرية للاتحاد الاشتراكي”. مما يفيد أن كل المؤسسات الحزبية مقيدة بقراراته وأحكامه، وأنه يتصدر هرم الهيكل التنظيمي للحزب. أما على صعيد تركيب المؤتمر العام، فقد دقق القانون الداخلي للحزب المقتضيات المحددة للعضوية في مادته الثانية والسبعين بعد المائة، حين ميز بين المؤتمرين أصالة وهم: أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية، وأعضاء اللجنة التحضيرية المضافون خارج أعضاء اللجنة الإدارية، والمؤتمرون المنتخبون في أقاليمهم بحسب مقتضيات المواد من 171 إلى 177 من النظام الداخلي.. منيطا مسؤولية الإعداد للمؤتمر الوطني والتحضير الأدبي والمادي بلجنة منتخبة من بين أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية، التي يقابلها عمليا المجلس الوطني في حزب الاستقلال[23].
فمن باب المقارنة بين الحزبين، أولى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أهمية خاصة لمبدأ انتخاب أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية، باعتبارها حلقة وسيطة بين المؤتمر الوطني واللجنة المركزية، فقد أخضعت الفقرة الثانية من المادة 16 من القانون الأساسي الأعضاء 189 للانتخاب بالاقتراع السري من لدن المؤتمر الوطني، أما على صعيد الاختصاصات والوظائف فقد خولته المادة 163 من القانون الداخلي “صلاحية التقرير في كل ما يهم الحزب وطنيا”، من قبيل “رسم توجهات الحزب وتحديد خطه السياسي” و”تعديل القانون الأساسي والنظام الداخلي للحزب عند الاقتضاء” و”انتخاب اللجنة الإدارية الوطنية” و”المصادقة على انتخاب المكتب السياسي من لدن اللجنة الإدارية” و”الاستماع إلى تقرير المكتب السياسي.. وتقارير لجان التحكيم الوطنية ولجنة مراقبة الحسابات المالية، ويناقش هذه التقارير ويصادق عليها”، كما يقــوم بتقييم “تجربة الحزب” ومحاسبة “أجهزته الوطنية” و”حل المشكلات الكبرى التي تطرأ على حياته”.

2- في شأن المركزية الديمقراطية:

عرفت الموسوعة السياسية “المركزية الديمقراطية” بأنها ” تعبير ابتكره الشيوعيون للتعبير عن المركزية التي تتمتع بها رئاسة الحزب الشيوعي على أعضائه، والديمقراطية التي يتمتع بها الأعضاء في مناقشة القرارات وسياسة الحزب، بحيث تلتزم الأقلية تماما بقرارات الأغلبية” [24].
تنهض قاعدة المركزية الديمقراطية، كمبدأ أساسي في تنظيم الأحزاب الاشتراكية واليسارية، على فرضية وجود تعايش بين مصدرين في تدبير الشأن الحزبي: القيادة كمحور لصناعة قرارات الحزب، والقاعدة كإطار لمناقشة حيثيات القرارات والنظر في مدى شرعيتها..غير أن معادلة المركزية –الديمقراطية قلما تحققت بشكل ناجع حتى في مهد ميلادها، حيث أثبتت تجربة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في وسط وشرق أوروبا تحول المبدأ إلى سلطة قهرية رسخت هيمنة القيادة على الأداء الحزبي، وحولت ولاء الأعضاء من انتساب إرادي وواع للأفكار والاستراتيجيات إلى طاعة سديمية للأشخاص والرموز والزعامات.. والحال أن تجارب الأحزاب العربية لم تشذ عن هذا المآل.
(أ) فهكذا ستشدد قوانين حزب الاستقلال منذ الفصل الأول من الباب الأول على ما يرتبط بالمركزية ويستجيب لروحها. فالفرد لا يصبح عضوا إذا كان “منخرطا في حزب سياسي آخر أو تنظيم معارض لمبادئ وأهداف الحزب”، كما يشترط فيه ” المصادقة على قوانين الحزب وأنظمته” والالتزام” بمبادئه ومقرراته”، علاوة على تعهده “بالإخلاص للحزب”، و”العمل على تحقيق مبادئه وأهدافه ويؤدي اليمين على ذلك..” إضافة إلى التزامه بأن “لا يتولى منصبا يتنافى والعمل داخل الحزب، وألا يتقلد منصبا سياسيا إلا بإذن من اللجنة التنفيذية” ويمنع عليه “أن يتخذ موقفا أو يدلي بتصريح إلا في دائرة مقررات الحزب”.
إذا كان مفهوما من المقتضيات المومأ إليها أعلاه حرص الحزب على تماسكه، والسهر على جعل أعضائه ملتزمين بفكره وثوابت إيديولوجيته، فإن ثمة أحكاما كثيرة ضمن قوانينه لا تسمح بالإقرار بوجود مساحة كفيلة بخلق التعايش المطلوب بين المركزية والديمقراطية، فالنزوع إلى محورة قرارات الحزب في قيادته يفهم إذا كان الانتخاب معمما على كل مؤسسات الحزب وأجهزته والحال أن حزب الاستـقلال يزاوج بين التعيين والانتخاب، حيث يتلاشى مبدأ الانتخاب ويضعف مفعوله كلما انتقلنا من أسفل الهرم الحزبي إلى أعلاه[25]. فاللافت للانتباه في سياق التأكيد على رجحان المركزية على الديمقراطية، انطواء تجربة حزب الاستقلال على مؤسسة قلما شهدت الأحزاب المغربية نظيرا لها[26].. إنها “جهاز المفتشين” الذي أقره الحزب منذ نشوئه وافرد له مقتضيات خاصة في قوانينه.
فالفصل السادس والثلاثون من القانون الأساسي المصادق عليه من طرف المؤتمر الثاني عشر للحزب (مايو/ أيار 1989) والذي أكده نظيره الثالث عشر (فبراير/ شباط 1998) في فصله الأربعين، يقضي بأن “تعين اللجنة التنفيذية في كل عمالة أو إقليم من بين أعضاء الحزب مفتشا(ة) يسهر على تنسيق النشاط الحزبي بالإقليم، تعين كذلك نائبا (ة) أو أكثر”.. فسلطة “المفتش” في هذه الحالة لا تنبع من مصدر انتخابي، بل من إرادة اللجنة التنفيذية وتزكيتها، فباستثناء الصلة التي تربطه بهذه الأخيرة، يتمتع باستقلالية واسعة حيال كل الأجهزة الإقليمية والمركزية الأمر الذي جعل “جهاز التفتيش” محل تساؤل ونقد منذ نشوئه كمؤسسة حزبية، رغم تكريس كل المؤتمرات له والمحافظة عليه ضمن وثائق الحزب وقوانينه. والحال أن نقد هذا الجهاز لا ينبع من كونه غير خاضع لقاعدة الانتخاب، بل يرد أيضا إلى طبيعة الاختصاصات التي منحتها إياه قوانين الحزب، حيث يضطلع المفتشون ونوابهم بالمهام التالية: “يسهرون على تطبيق قوانين الحزب ويحافظون على مؤسساته، يبلغون تعاليم الحزب ويسهرون على تطبيقها، يسهرون على إحداث فروع جديدة في الأماكن التي لا توجد فيها فروع الحزب، يراقبون سير الفروع وحساباتها ويساعدون على حل مشاكلها الخاصة، يتفقدون بانتظام مختلف الفروع التابعة لمفتشياتهم، يجمعون المعلومات التي تهم الحزب ويوجهونها إلى المفتش العام. يوجهون إلى المفتش العام كل شهرين تقريرا يشمل نشاط فروع الحزب وهيئاته ومنظماته الموازية في مختلف الميادين ومظاهر النشاط السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي. “[27] تجدر الإشارة إلى أن “جهاز المفتشين” ليس نظاما خاصا بالمؤسسات الحزبية الإقليمية، بل لقد خولت قوانين الحزب للجنة التنفيذية صلاحية تعيين مفتش عام على الصعيد الوطني من مهامه: “يكون على اتصال بالمفتشين والفروع ويراقب نشاطهم”، ويبلغ تعليمات الحزب ويراقب تنفيذها”، وموازاة لهذا العمل التنسيقي والرقابي “يقدم تقريرا إلى اللجنة المركزية كل ستة أشهر… عن مدى نشاط فروع الحزب” و”يسهر على تلخيص تقارير المفتشين وتوزيعها على أعضاء اللجنة التنفيذية’، كما “يطلع اللجنة التنفيذية على نشاط الفروع”. إن استفراد حزب الاستقلال خلافا لغيره من الأحزاب المغربية، بإحداث وتأصيل مؤسسة من قبيل “جهاز المفتشين”، قد لا يضر في شيء قاعدة المركزية الديمقراطية، لو تأسس على مبدأ الانتخاب وخضعت صلاحياته المهمة والواسعة لقدر من التقييد، وهو ما لم تسمح لنا قراءة قوانين الحزب بملامسته، حيث العلاقة منحصرة بين اللجنة التنفيذية وجهاز المفتشين، مما حول هذا الأخير حسب بعض الباحثين إلى “أعين” اللجنة التنفيذية على هيئات الحزب و”آذانها” التي تبلغها بكل ما يروج داخل حزب الاستقلال في مختلف أنحاء المغرب[28].
(ب) يكتسي موضوع المركزية الديمقراطية طابعا خاصا في خطاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. فهو، خلافا لحزب الاستقلال، انتسب منذ الإعلان عن تأسيسه (1975) إلى أطروحة “الاشتراكية الديمقراطية”، بكل ما يترتب عن ذلك من نتائج سياسية وتنظيمية. فقد أولت كل الأحزاب التي اعتمدت مشروع البناء الاشتراكي الديمقراطي اهتماما خاصا للإشكالية التنظيمية، وفي صدارتها قاعدة “المركزية الديمقراطية”، لذلك ليس غريبا أن يعي التقرير السياسي للمؤتمر الاستثنائي (1975) مركزية هذا المـبدأ، ويضعه القانون الداخلي-كما صادقت عليه اللجنة المركزية للحزب في 22 مارس/ آذار 1986- في التصدير، محددا معنى المركزية الديمقراطية ومبرزا المقومات المؤسسة لها والإيجابيات التي تنطوي عليها في مجال التدبير الديمقراطي الحزبي[29].
يتضمن كل من القانونين الأساسي والداخلي عديد المقتضيات التي تكفل التنظيم السليم لإعمال مبدأ المركزية الديمقراطية. فعلى خلفية الاهتمام المتزايد بالمسألة التنظيمية أفرد القانون الداخلي المصادق عليه من لدن المؤتمر الوطني السادس للاتحاد الاشتراكي المنعقد أيام 28 مارس/ آذار و2 أبريل/ نيسان 2001 الباب الأول لمبادئ التسيير الديمقراطي الداخلي للحزب كالمساواة بين جميع الأعضاء في “المساهمة في تحديد أهداف وسياسة الاتحاد الاشتراكي ووضع برامجه وتكييف استراتيجيته في الترشح لجميع المسؤوليات محليا ووطنيا”، أو التشديد على ضرورة “اتخاذ القرارات بعد التداول بشأنها بكل شفافية وحرية وبواسطة التصويت ما عدا في حالة التوافق”، كما أولت اعتبارا خاصا لقضية الاختلاف داخل الحزب والاعتراف بشرعية وجود تيارات في حدود ما لا يتعارض مع “استراتيجية الحزب ووحدته”. علما أن المادة الخامسة من النظام الداخلي حظرت تكوين “تيارات مهيكلة تنظيميا”.. أما في باب المركزية فقد جاءت المادتان 13 و14 صريحتين في هذا المجال. فبينما أكدت المادة الثالثة عشر على “تخفيف مركزة التنظيم الحزبي مع احترام تراتبية المسؤوليات الحزبية”، شددت المادة الموالية لها (14) على ضرورة أن ” تنضبط التنظيمات المحلية لقرارات التنظيمات المركزية وتخضع لمراقبتها. وينضبط كل تنظيم للتنظيمات الأكثر تمثيلية أو الأعلى منه درجة ويخضع لمراقبتها”، إضافة إلى انضباط “الأعضاء على جميع المستويات للقرارات المتخذة من لدن الهيئات والأجهزة الحزبية المختصة”.[30]

3- بخصوص تعاقب النخب على السلطة الحزبية

يعتبر التداول على السلطة مسألة مركزية في التسيير الديمقراطي الحزبي. إذ لا يكفي أن يطالب الحزب بالديمقراطية في الدولة ومؤسساتها، ويستنكف عن تجسيد المطلب نفسه في أجهزته وهياكله. ففما يلاحظ على التجارب الحزبية العربية، والمغرب جزء منها، ضعف ثقافة التسيير الديمقراطي داخلها، بالمعنى الذي يجعل الترقي في سلم الحزب وتراتبية مؤسساته مبنيا على مقاييس لا تضع في صدارتها الكفاءة والاستحقاق وتكافؤ الفرص، ولقلما انتبهت الأحزاب السياسية وهي تعترض على الدولة قيامها بإشاعة قيم “التعزيب patronage والاستزلامClientélisme ” أنها تعيد إنتاج السلوك نفسه، علما أن بنودا كثيرة من قوانينها تقضي بحقوق الأفراد في التدرج في هرمية السلطة والتعاقب على ممارستها.
لقد شكل تعاقب النخب على السلطة الحزبية أحد القضايا التنظيمية المهمة في جدول أعمال حزبي الاستقـلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال عقد التسعينيات، كما مثل أحد المداخل الأساسية للتفكير في إعادة صياغة توجهات الحزبين وتطوير أدائهما، نتيجة التحولات العميقة التي شهدها المجتمع المغربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ولربما لم تتعرض الأحزاب المغربية الأخرى لما تعرض له هذان الحزبان في موضوع دوران النخبة وتجددها وانفتاحها، فالحزبان معا ولدا من لاحم الحركة الوطنية وانتسبا إلى تراثها والحال أن أكثر من نصف ساكنة المغرب تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة، فهؤلاء لم يعايشوا مرحلة النضال الوطني، كما لم يحتكوا برموزها بالقدر الذي يجعل خطاب الوطنية والتضحية والأقدمية في النضال كافيا لإقناعهم باستمرار جيل الحركة الوطنية متصدرا مراكز القيادة ومصادر صنع القرار.

(أ) فهكذا، شكل المؤتمر الثالث عشر لحزب الاستقلال، المنعقد في فبراير/ شباط 1998، لحظة مهمة بالنسبة للقضايا التنظيمية. فخلاله تم انتخاب أمين عام جديد بعد الانسحاب الطوعي لنظيره السابق السيد محمد بوستة، مشكلا بهذه المبادرة أول سابقة في تاريخ الأحزاب المغربية، إذ السائد أن يبقى الأمين العام موجودا على رأس الحزب مدى الحياة، وإن تداركت بعض الأحزاب هذا المطب خلال مؤتمراتها الأخيرة، فحددت عدد الولايات التي لا يحق للأمناء العامين تجاوزها[31]، كما أولى الحزب خلال المناسبة نفسها أهمية ملحوظة لتمثيلية المرأة في الهيئات القيادية، وتشبيب بعض أطره في اللجنة التنفيذية كما حصل في المؤتمر الرابع عشر الأخير المنعقد في مارس/ آذار 2003.
يمزج حزب الاستقلال بين الانتخاب والتعيين في تنظيم المسؤولية الحزبية. فالقوانين أخضعت الهياكل السفلى لمبدإ الاقتراع حيث يحق لكل عضو الترشح لتحمل المسؤولية والترقي في هرمية الحزب، في حين تركت الهياكل العليا للانتخاب والتعيين معا، مما جعل إمكانيات الانسياب إلى مواقع المسؤولية في القيادة أكثر صعوبة وأقل انفتاحا. إن التشديد على أهمية مبدإ الانتخاب في تحقيق التسيير الديمقراطي مسألة نسبية، ذلك أن الانتخاب حين لا يكون مؤطرا بثقافة سياسية ديمقراطية لا ينجز مقاصده، كما أن التعيين، وهو نقيض التصويت، ليس رذيلة مطلقة في السياسة، فقد يحقق المراد إذا كان مستندا على إرادات نزيهة ترجح الكفاءة والاستحقاق، في حين يغدو أكثر سلبية إن هو مورس على خلفية الولاء للزعامات و الرموز.

(ب) خلافا لحزب الاستقلال، أولى الاتحاد الاشتراكي في مؤتمره الأخير (2001) أهمية ملموسة لمسالة التعاقب على السلطة داخل مؤسسات الحزب وهياكله. ولأن ورد القانون الأساسي خلوا من أي تنصيص على قاعدة التناوب وشروط ممارسته، فإن النظام الداخلي أفرد خمس مواد (م 15-16-17-18-19) لقضية التداول وممارسة المسؤوليات، كما خصص نظيرها (م 20-21-22-23-24) لمسألة التجديد الدوري للهـيئات والأجهزة الحزبية، علاوة على تخصيصه حصة لا تقل عن 20% لتمثيلية النساء في تحمل المسؤوليات في الأجهزة الحزبية الوطنية المركزية والمحلية.
فهكذا، جاء منطوق المادة 15 من النظام الداخلي للحزب صريحا حين قضى بأن “لا تجوز ممارسة عضوية جهاز تسيير: مكتب الفرع، أو كتابة إقليمية أو لجنة تنسيق قطاعية أو مكتب سياسي في أكثر من ولايتين متتاليتين..” وإن فتحت المادة 17 إمكانية العودة لمن استنفذ الولايتين بعد أن تمر عليهما ولاية واحدة، مما يعني أن النظام الداخلي لم يقطع بشكل صارم مع استمرار العضو في الأجهزة التسييرية، وفي الوقت نفسه لم يسمح بأن يبقى حضوره دون نهاية. بيد أن النظام الداخلي استثنى من قاعدة الولايتين المتتابعتين أعضاء المجالس التقريرية المحلية (مجالس الفروع، المجالس الإقليمية والهيئات التقريرية الوطنية (اللجـنة المركزية واللجنة الإدارية)، مما يفيد أن استمرار وجود العضو في هذه المؤسسات غير محدد بسقف زمني ورهين بإرادة الناخبين الحزبيين. وفي السياق نفسه تضمن النظام الداخلي للحزب مقتضيات جديدة خاصة بحالات التنافي والحد من تعدد المسؤوليات، حيث منع العضو بمقتضاها من الجمع بين عدة مسؤوليات في نفس الوقت، سواء داخل هياكل الحزب أو بالنسبة لرئاسة أحد قطاعاته الموازية كالشبيبة، والنساء، والمركزية النقابية، والعضوية في مجلسي البرلمان.

ثانيا: مفارقات الممارسة

ينتمي القانون، باعتباره مجموعة قواعد للتنظيم والضبط، إلى حقل العصرنة والتحديث، غير أنه يبقى مرتهنا على صعيد الممارسة بنظام القيم والمرجعية التاريخية والثقافية. ويعني هذا أن ثقافة المجتمع ودرجة وعي مكوناته وطبيعة إرثه التاريخي أمور على درجة بالغة الأهمية في إنجاح تطبيق القانون وجعله قادرا على المساهمة في إحداث التغييرات الإيجــابية المطلوبة. والحال أن هذه المعاينة لا تطال الدولة ومؤسساتها فحسب، بل تنسحب على المجتمع والمنظمات المعبرة عنه، وفي صدارتها الأحزاب السياسية.
لقد أشرنا سلفا إلى بعض شروط ميلاد فكرة الحزبية في المغرب الأقصى، حيث شددنا على أن الأحزاب لم تكن وليد مطلب اجتماعي، بقدر ما كانت ضرورة نضالية لمقاومة المستعمر الذي فرض عليها قدرا كبيرا من السرية بسبب حجم القمع الذي جوبهت به وهي تتلمس الطريق إلى صياغة مطالبها في التحرر والدعوة إلى استرداد السيادة الوطنية، كما ألمحنا إلى أنه لم يكن غريبا لديها أن تعتمد أشكالا في التنظيم ملائمة لظروف وجودها، هي أقرب إلى “الزوايا” والهيئات الصوفية منها إلى الأحزاب العصرية، علاوة على توحدها في النضال مع المؤسسة الملكية ونهلها من معين تراثها التقليدي المؤسس على رأس المال الرمزي.
فحزب الاستقلال ونظيره الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مدينان لهذا الإرث ومرتبطان بمنظومة قيمه، وإن بدا لكثير من متابعي الحياة السياسية المغربية أن مرور قرابة نصف قرن على استقلال البلاد كفيل بإسعافهما في رسم مسافة معه (الإرث) والقطيعة مع مظاهر الخلل فيه. بيد أن أقل من خمسين سنة لا تمثل حقبة طويلة بالمفهوم التاريخي للزمن حيث يلعب البناء التدريجي والتراكم المنتظم دورا مركزيا في إعادة صياغة وعي المجتمع واستقامة ثقافته، كما أن هناك متغيرا أساسيا يصعب فهم واقع ممارسة الأحزاب السياسية المغربية دون إدخاله دائرة التحليل، يتعلق الأمر بطبيعة “المجال العمومي” ومسار تكونه في المغرب الأقصى، وقد تساعدنا المقارنة العمودية مع الغرب على إدراك ثقل هذا المتغير على أداء الأحزاب السياسية المغربية وتجربة تعاطيها مع الشأن العام.
فعلاوة على اقتران ولادة الأحزاب في الغرب بمطالب اجتماعية رفعتها طبقات وشرائح متنوعة، تطورت الظاهرة الحزبية في تماس مع توسع دائرة المشاركة السياسية وتعمق الديمقراطية، التي كان من نتائجها المباشرة تكون مجال عمومي سمح بحرية المناقشة والرأي والاختلاف وشجع على الاجتهاد وصان التنافس على الترقي في السلم الاجتماعي والتدرج في هرمية مؤسسات الدولة، خلافا لذلك شهدت الحياة السياسية المغربية على امتداد أربعين سنة (1956-1996) تجاذبا بين منطقين متباينين قوامهما سيادة ثقافة الإقصاء المتبادل. فباستثناء المشاركة المحدودة لحزب الاستقلال في بعض الحكومات[32] ظل الاتحاد الاشتراكي خارج مدار السلطة، يمارس المعارضة من موقع المؤسسات المنتخبة وعلى لسان صحافته، علما أن موقفه من وثيقة الدستور ظل مقاطعا غير مشارك في التصويت منذ وضع أول دستور للبلاد (1962) وحتى لحظة التصويت عليه بما يشبه الإجماع (1996)[33].
ترتبت عن سيادة الإقصاء المتبادل نتائج عميقة بالنسبة لمسار النسق السياسي المغربي وطبيعة العلاقة بين مكوناته، فقد أضاع الفاعلون السياسيون فرصا ثمينة على طريق تأصيل مفاهيم العمل السياسي وترسيخ ثقافة المشاركة قبل أن يتنبهوا إلى قيمة الاعتراف المتبادل وشرعية الاختلاف في صياغة علاقة طبيعية بينهم وبناء جسور التواصل مع المجتمع. لذلك لم تستقم الحياة السياسية المغربية، وتترسخ الأسس القادرة على دمقرطة الدولة والمجتمع على رغم قدم فكرة التعددية الحزبية ودسترتها المبكرة في المغرب[34]. فحزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، برغم الفروقات التي تميزهما من حيث التركيبة الاجتماعـية والأفق الفكري والسياسي، بقيا، إلى حد بعيد، منشدين إلى إرثهما التاريخي ونميل إلى القول أن نزعة التقليد مستحكمة في عمق ممارستهما، وإن كانت أدبيات الحزبين وما يصدر عنهما من خطب تحيل على قيم الحداثة والعقلانية وتدعو إلى بثها في الحياة الحزبية.

1- في ابتلاء الممارسة بعيب السرية وعسر انغراس مبدإ الشفافية:

أسجل بداية أن القول بتفشي السرية في ممارسة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ليس معطى محسوما من الناحية العلمية، بقدر ما هو استنتاج مستخلص من انتقادات المناضليـن وتعليقات الصحافة، وانطباعات المتابعين لتطور الحياة السياسية المغربية. فالأمر يحتاج موضوعيا إلى دراسات ميدانية [35] لإثبات علمية هذا الحكم وتأكيد صلاحيته، بيد أن هناك عديد المؤشرات القادرة على الدفع في اتجاه البرهنة على رجاحة هذا الرأي.
(أ) فالطابع السري الذي حكم تجربة الحركة الوطنية المغربية، وتحكم في التنظيمات التي شكلت روافدها السياسية لم تتوفر شروط القطيعة معه بل استمر ضاغطا على تفكير وممارسة الأحزاب كما هو حال الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. صحيح أن مرور قرابة نصف قرن على استقلال المغرب مكن هذين الحزبين من تطوير تجربتهما التنظيمية والسياسية والسعي إلى اكتساب آليات العمل العصري، غير أن عمق الممارسة ظل تقليديا و”استمرت السرية في شبه علنية”، تنجز الأساسيات في السياسة وتحسم في دائرة “التوافقي” و”السري”، أما المجال العام أو العمومي فتمارس فيه الخطب فقط””[36] الأمر الذي يفسر لماذا تتحول اللحظات الانتخابية، دون سواها، أكثر المناسبات علانية وأوسعها تواصلا مع المناضلين وباقي مكونات المجتمع.
لم يكن من باب الحتمية التاريخية استمرار الأحزاب الوطنية المغربية على خط المماثلة مع تجربتها النضالية، بل كان ممكنا اعتماد مسارات مغايرة من شأنها إعادة صياغة مفهوم العمل الحزبي على قدر يسير من العصرية والشفافية وتمكين المناضلين من الاندفاع الواضح والواعي في استراتيجيات أحزابهم والسعي إلى تحقيق مقاصدها. لذلك ظل بعض الباحثين يصفون أحزاب الحركة الوطنية بنعت “الزاوية”، ويدافعون عن فرضية قيام الحياة الحزبية على ثنائية “الشيخ” و”المريد”، بكل ما يترتب عن هذه العلاقة من نتائج تنظيمية وفكرية وسياسية. فإذا كان المجال الصوفي محكوما بقوامية الشيخ الذي يشكل المرجعية الأساس، منه تـنـبع الهيبة والجاه والسلطان، وهو مصدر الهبة، والإكرامات، والمنافع الرمزية، أما المريد فعليه الطــاعة والامتثال والولاء المطلق، فكلما توفرت في المريد مثل هذه الخصائص كانت حظوظ اقترابه من الشيخ أوفر، وبالنتيجة كانت دائرة استفادته من المنافع أوسع. يميل البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي إلى تأكيد حصول انتقال عمودي لهذه الثنائية من مجال التصوف إلى حقل السياسة. فكما أن الشيخ في التصوف لا مراد لقضائه، فالزعيم بدوره لا حدود لسلطته في السياسة، على الرغم من انتماء التصوف والسياسة إلى مجالين هما في خط التباعد والتناقض.

(ب) في الحاجة إلى نقد نمط الولاء الحزبي:

يفترض في الحزب السياسي –باعتباره جهازا عصريا- أن يؤسس الولاء فبه على قواعد ومبادئ عقلانية، بالشكل الذي يجعل فكرة المؤسسة سائدة ومهيمنة. صحيح أن للقيادات والشخصيات الوازنة أدوارا مركزية في تطوير الحزب وتنمية أدائه، بيد أن هناك فرقا بين أن يكون الولاء لكيان اعتباري يدين الجميع بالانتساب إليه والدفاع عن استراتيجيته، وبين أن تتوزع ولاءات المناضلين على أسماء حزبية هي في حكم “الزعامة” و”المشيخة” منها إلى القيادة. فالولاء لمؤسسة الحـزب يحافظ على لحمته دون التفريط في إمكانية الاختلاف والاجتهاد، في حين تذكي “الزعامة” روح التشيع وتشجع على الاصطفاف وراء ولاءات شخصية سلبية في حياة الحزب السياسية و النضالية.
ولأن تجربة أحزاب الحركة الوطنية المغربية، كما هو حال الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، حملت في ذاتها بعض مظاهر إرث الدولة المغربية، ومؤسساتها التقليدية، فإن للزعيم القائد حظوة خاصة في دائرة لحزب ومؤسساته.
لم يكن غريبا على سبيل المثال أن يصادق حزب الاستقلال في مؤتمره الثالث عشر بالإجماع على “أن يحتفظ برئاسة الحزب للرئيس علال الفاسي… ” اعترافا بمكانته و” تأكيدا على السير في نفس النهج الذي خطه بجهاده وكفاحه”.. والحال أن واضعي القانون الأساسي كانوا واعين أهمية هذا المقتضى حين جعلوه يتصدر هندسة النص قبل الديباجة والتقديم والباب الأول الخاص بالعضوية، كما أن القراءة الفاحصة لقوانين الحزب تحيل على المكانة الخاصة للأمين العام، والأطر القيادية المسيرة للأجهزة المركزية.
يعد الأمين العام حلقة مركزية بداخل الأجهزة القيادية للحزب، فقد سمحت فصول عديدة من القانون الأساسي بأن تكون له مكانة قوية ومقررة في حياة الحزب التنظيمية والسياسية. فهو يترأس من جهة، جميع اجتماعات الأجهزة التقريرية من لجنة تنفيذية، ولجنة مركزية، ومجلس وطني، سيما إذا استحضرنا أن قوانين الحزب تخول هذه المؤسسات سلطات واسعة في مجالات رسم سياسة الحزب، وصياغة استراتيجـيته، وتحديد مواقفه من القضايا الوطنية. يضاف إلى احتكاره المطلق لتمثيل الحزب والنيابة عنه أمام الدولة ومؤسساتها السياسية وإزاء القضاء. صحيح أن الفصل الثاني والخمسين من القانون الأساسي حدد دائرة التمثيلية، حين قضى بأن “يتحدث الأمين العام باسم الحزب في دائرة البرنامج المقرر مــن طرف المـؤتمر والخطط المرسومة من قبل هيئاته، وهو الناطق الرسمي باسم الحزب”. بيد أن الممارسة أفضت إلى وجـود موقع خاص للأمين العام أسعفه في أن يؤثر على أداء الحزب ويكيف توجهاته. فالنص نفسه يفتقر إلى الدقة والوضوح، بل تساعد مفرداته العامة والملتبسة على إمكانيات التأويل والسماح بممارسات لم تكن واردة في خلد المشرع الحزبي لحظة وضعه إياه، علاوة على أن القانون الأساسي وإن أناط في فصله السابع والخمسين باللجنة التنفيذية مهمة تقرير النفقات والسهر على المداخيل المالية للحزب، فقد خول الأمين العام سلطة التصرف في ممتلكات الحزب بالنيابة عنه، بكل ما يترتب عن هذا الاختصاص المهم والخطير من نتائج تنظيمية وسياسية.. والحال أن مكانة الأمين العام لا تتوقف عند الاستحكام في مصادر القرار السياسي والمالي، بل تتجاوزه إلى سلطة النظر في ملفات التأديب والتحكيم داخل الجسم الحزبي، فحيـث أن الفــصـل الثاني والخمسين جعل منه المحافظ على “كيان الحزب” والساهر على “مبادئه وأهدافه”، فقد خوله مشروعية التمتع بسلطة معنوية وأدبية على المناضلين، تسمح له إلى جانب اللجنة التنفيذية ولجنة التوفيق، وطبقا للفصل الثامن والسبعين، بحق اللجوء إلى اللجنة الوطنية للتحكيم والتأديب وإحالة ملفات كل من يقدر إخلالهم بكيان الحزب وعدم التزامهم بمبادئه. وحيث أن أحد وجوه جوهر السياسة التنازع حــول المصالح والمواقع فقد تتحول سلطة الإحالة على صعيد الممارسة إلى وسيلة ناجعة لإعاقة الاختلاف والإجهـاز على حقوق المناضلين والتنكيل بهم،[37] حتى وإن كفل لهم القانون حق الاعتراض على الأحكام الصادرة في حقهم والتماس إعادة النظـر فيها. [38] لم يخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من وجود مثل هذه الأعطاب في تجربته التنظيمية والسياسية. فقد تعرض أكثر من غيره للنقد والمؤاخذة والتشهير من طرف مناضليه ومن ينتصرون لمبادئه وأهدافه، علما أن قوانينه تنبت فكرة التسيير القيادي الجماعي حين أناطت المادة 17 من القانون الأساسي باللجنة الإدارية مهمة انتخاب مكتب سياسي مكون من إحدى وعشرين عضوا من بينهم كاتب أول ونائب له، يصادق المؤتمر على انتخابه أو يترك للجنة الإدارية مهمة القيام بذلك في أول اجتماع لها بعد المؤتمر، كما شددت المادة 18 على أن “يقوم المكتب السياسي بصفة جماعية، بالإدارة الفعلية والسياسية والمالية للاتحاد الاشتراكي طبقا لمقررات اللجنة المركزية واللجنة الإدارية الوطنية”.
فالثابت –في غياب دراسات ميدانية ذات طابع علمي وتوثيقي- أن الجماعية في التسيير، كما نصت عليها قوانين الحزب، لا تؤكدها الممارسة، وأن الولاء ليس مرتبطا في إطلاقيته بكيان الحزب ومؤسساته، بقدر ما له صلة إلى حد بعيد بالأشخاص المتنفذين في القيادة أو من يقومون مقامهم في الأقاليم، ومن الملاحظ استفحال هذه المفارقة كلما كان الحزب على عتبة الاستحقاقات الانتخابية أو لحظة استعداده لعقد مؤتمراته الوطنية قصد الدفاع عن حصيلة أدائه وتجديد هياكله.. نحيل في هذا السياق على شهادة أحد مناضلي الحزب وأطره القيادية لزمن طويل في قطاعي الشبيبة والطلبة مع إدراكنا حدود موضوعية الشهادة عندما يتعلق الأمر بتنازع المصالح وتباين الاستراتيجيات، يقول فيها: “… ونشير إلى أن من صور تهميش القواعد من طرف المكتب السياسي، الطريقة التي أصبحت توضع بها قوائم الترشيح في الانتخابات التشريعية، بحيث تولى المكتب السياسي مباشرة وضع لائحة انتخابات 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، بدون أن يحيلها على اللجنة المركزية، كما كان يجري الأمر في الماضي، ومع إعفاء نفسه من التقيد بالمقترحات الواردة عليه من الأقاليم والتي اعتبرت مجرد “بيانات للاستئناس”، بل إن المكتب السياسي هو نفسه الذي باشر ترشيح أعضائه أيضا، وفي الدوائر التي يختارونها وبحضورهم؟”، ليضيف “وهكذا فإن تحكم المكتب السياسي في آلية الترشيح وسيطرته شبه المطلقة على الدواليب الحزبية، خارج أية مراقبة أو تتبع أو مشاركة قاعدية قد أفرز داخل أطر الحزب تيارا جارفا نحو اختيار التقرب من المكتب السياسي عوض الارتباط بالتنظيمات القاعدية والسعي لكسب ود القيادة كبديل عن العمل مع المناضلين في القاعدة، وقد عمق ذلك نزعة احتقار القيم التنظيمية والاستهانة بها، ولم يعد رأي المناضلين موضوع أي اعتبار، ولا تظهر صورة التقرب من القيادة في شكل ولاءات وخدمات شخصية واتصالات وتواجد في محيط القاعدة الاجتماعي والثقافي والسياسي، بل وصل الأمر إلى حد الاقتناع بالإقامة قريبا من القادة” [39].
ليست هذه سوى صورة من صور عديدة عكستها آراء المناضلين وتقديرات المتابعين لتجربة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأداء مؤسساته الحزبية. فالمؤتمر الوطني السادس المنعقد في الدار البيضاء أيام 28 مارس/ آذار و2 أبريل /نيسان 2001، عكس بوضوح أهمية المسألة التنظيمية وخطورتها على مستقبل الحزب ومكانته في المنظومة السياسية المغربية.. فقد تساءل تقرير المكتب السياسي الذي قدمه الكاتب الأول السيد عبد الرحمان يوسفي لحظة افتتاح المؤتمر عن السبيل للوصول إلى تحقيق إطار حزبي نموذجي يجعل التعايش بين الوحدة والتعددية ممكنا؟. مجيبا بالقطع: “ليس هناك سبيل آخر غير تنمية الديمقراطية داخل الحزب”، مضيفا “الديمقراطية الداخلية في الحزب ليست أمرا قانونيا بل هي فعل حقيقي، فنحن إذا عاينا تجربتنا الماضية، سنجد أنفسنا أننا كنا مقصرين في فتح المجال للمناضلين والأطر وللمتعاطفين مع الحزب وللأصوات المجتمعية لكي تجد مجالا للتعبير عن آرائها وتطلعاتها وهمومها…”[40]. إن التقرير وإن أمسك بمظاهر العطل في تجربة الحزب وسعى إلى استشراف أفق التجاوز، فإن النقاش الداخلي للمؤتمر كان أكثر حدة وصرامة كما يستنتج من الوثائق التي نشرت أو التي لم تجد طريقها إلى النشر[41]، علما أن الحزب خلال انعقدا مؤتمره الاستثنائي في يناير/ كانون الثاني 1975 اقدم على خطوة جريئة حين نشر على صفحات جريدته “المحرر” جزءا من المناقشات الداخلية بإيعاز كبير من شهيد صحافته “عمر بنجلون”.
نخلص في خاتمة هذا الشق من الورقة البحثية إلى أن الحزبين المنتميين إلى العائلة الوطنية وإن اختلفا في المنطلقات والتصورات الفكرية وتباينت تجاربهما التنظيمية والسياسية، ولم يتوحدا حيال القضايا المركزية التي أفرزها التطور الموضوعي للحياة السياسية المغربية على امتداد أربعة عقود، اقتربا من حيث طبيعة الممارسة ونوع القضايا التنظيمية والسياسية المترتبة عنها. صحيح أن حزب الاستقلال، خلافا للاتحاد الاشتراكي، توفق في المحافظة على تلاحم الحزب ووحدة كيانه، في حين انفرط خيط الاتحاد وتعرض لانشقاقين منذ الإعلان عن خروجه من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية صيف 1972، وحتى لحظة انعقاد مؤتمره السادس الأخير ربيع 2001، حين انشق فصيل عنه سيكون بدوره حزبا حمل اسم “المؤتمر الوطني الاتحادي”. الحاصل أن نفس الاحتقان الناجم عن ضعف الديمقراطية الداخلية شكل مصدر قلق مشترك لدى المناضلين في الحزبين معا، غير أن ثقل الآباء المؤسسين ونوعـية الثقافة التي حكمت مسار حزب الاستقلال وأطرت علاقات مؤسساته جنبته مآل الانشقاق، وإن طرحت عليه أسئلة في غاية الدقة منذ انعقاد مؤتمره الحادي عشر سنة 1982 كقضية “المجايلة ودوران النخبة القيادية”[42] في الحزب، والديمقراطية الداخلية-.
إن توحد الحزبين في الأعطاب التنظيمية والسياسية الناجمة عن الممارسـة يحيـل على وجود عطل في التفكير والثقافة السياسية لدى المؤسستين.. ونميل إلى القول أن من محددات تفسير العطل الحاصل ضغط ثقل إرث الحركة الوطنية على أداء الأحزاب المتفرعة عنها.. فقد ظلت القيادات الوازنة في الحزبين منشدة إلى التراث العميق للنضال الوطني من حيث نمط التفكير السياسي وثقافة التدبير الحزبي، على الرغم من التغيرات التي طرأت على هيكلة الحزبين و تكوينهما، والتحولات التي طالت بنية المجتمع المغربي[43]. لذلك يعتبر النجاح في تفكيك هذا الإرث والقطيعة مع العناصر السلبية والمعيقة فيه مفتاح تطور الحزبين وشرط توفقهما في خلق ظروف الملاءمة بين النصوص والممارسة، بين القول والفعل في الحياة الحزبية.

العنصر الثاني: الديمقراطية البينية وعبء التاريخ

يرتبط العنصر الثاني مع نظيره الأول ضمن هذه الورقة البحثية، في كون “الديمقراطية” ككل غير قابلة “للقسمة” أو التوزيع. فالديمقراطية مع الذات شرط عين لامتدادها إلى الآخر الذي لا يتخذ في هذا المقام معنى “الأجنبي” كما هو الحال في التناظر بين “الأنا” و”الآخر” بل ينطوي على طابع المغايرة التي يقتضيها الاختلاف في التفكير، والاستراتيجيا، والتباين في منهجية إدارة السياسة وما يرتبط بها ويتفرع عنها من قضايا وأسئلة.
ولأن حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي سليلا الحركة الوطنية، وحدهما النضال وجمعهما أفـق التحرر واسترداد السيادة، وأبعدتهما السياسة باعتبارها فن تدبير المصالح، يكتسب البحث في واقع الديمقراطية بينهما طابعا خاصا لعله أقرب إلى التعقيد وصعوبة النظر منه إلى الاختزال والتعميم والوثوقية. فاللافت للانتباه أن مسيرة الحزبين، بقدر ما عانت من عبء التاريخ وثقل جروحه السياسية، بالقدر نفسه ظلت مستجيبة لنداء المستقبل. لعل تبادل الحزبان كل ما يمكن أن يلج قاموس السياسة من نعوت وأوصاف بذيئة، وصلت حد التجريح والتخوين والتنكيل،، بيد أنهما سرعان ما يتكاتفان حين يتعلق الأمر بمنعطـف عميق وخطير أو حين يلوح في الأفق بريق أمل يؤشر لاحتمالات التغيير..إنها ضرورات السياسة ومستلزماتها.
ننطلق في هذا العنصر الخاص بمعالجة واقع الديمقراطية بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي من أن ضعف الديمقراطية الداخلية أعاق إمكانية امتدادها وصيرورتها سلوكا مشتركا بين الحزبين. بيد أن التحليل المطلوب لا يتوقف عند هذه المعاينة، بل يستلزم إدخال متغيرات أخرى كفيلة بتوسيع دائرة المعالجة. لذلك نعتبر حضور التاريخ الوطني واستمرار الاختلاف بشأن توظيفه واستثمار رصيده الرمزي في إعادة إنتاج الشرعية التاريخية متغيرا أساسيا في إعاقة الديمقراطية بين الحزبين. غير أن الحزبين وإن اختلفا في تأويل التاريخ الوطني واستثمار رمزيته، فإن متغيرا ثالثا كان له بالغ التأثير في تحديد مساحة الديمقراطية بينهما، يتعلق الأمر بطبيعة النظام السياسي ونوعية المفاهيم التي أطرت الحياة الدستورية والسياسية المغربية.

أولا: في العلاقات الثنائية

شددنا سلفا على أن انشقاق 25 يناير/ كانون الثاني 1959، كان أول شرخ في جسم الحركة الوطنية المغربية. فالمناضلون الذين وحدتهم مقاومة المستعمر، واستمروا يعتبرون حزب الاستقلال بيت الجميع وعوا بأن أسئلة الهوية الإيديولوجية، واستراتيجية إعادة بناء الدولة الوطنية من الحدة والدقة ما يجعل الاختلاف مشروعا، والاجتهاد في استجلاء سبل إدارته شرعيا ومطلوبا. بيد أن ضعف ثقافة الاختلاف لم يسعفهم في أن يركبوا طريق التغيير العمودي، فكانت كلفة النزوع إلى التغيير الأفقي بإحداث حزب جديد باهظة من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية. [44] ليس مطلوبا منهجيا التفصيل في مسار العلاقات الثنائية بين الحزبين لحظة الانشقاق وما أعقبتها من تطورات، حيث الصحافة الصادرة وقتئذ، والسير الذاتية لثلة من الوطنيين، والروايات الشفهية حبلى بالصور والشهادات والاعترافات[45]. يهمنا في هذا المقام فحص طبيعة العلاقة التي جمعت الحزبين حيال ما يعتمل في الحياة الدستورية والسياسية المغربية.
1- استند مؤسسو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية[46] في الدفاع عن شرعية إحداث الحزب الجديد (1959) على مقولة “الوضوح الإيديولوجي”، والسعي إلى إقامة قطيعة مع التفكير الذي لف وعي النخبة الوطنية وقاد مسيرتها النضالية داخل حزب الاستقلال. فالأداة الحزبية الجديدة مطالبة بصياغة مشروع سياسي واضح تتكاتف كل مكونات المجتمع من أجل النهوض به وإنجاز مقاصده، بعيدا عن “التعصـب الحزبي، والاحتراف السياسي وعدم الشعور بالمسؤوليات”[47]. لذلك سيجد حزب الاستقلال نفسه وجها لوجه أمام نظيره الجديد بخصوص أعقد القضايا التي واجهها المغرب بعد استقلاله.. صحيح أن النضال الوطني لم يتسع وقتئذ لقبول الأسئلة المستقبلية بحجـة تـرتـيـب التناقضات وإعطاء الأولوية لشعار الاستقلال، بغض النظر عن مضمونه وأبعاده، وصحيح أيضا أن التعاقد الضمني مع المؤسسة الملكية أعاد تأكيد هذا الشعار وحول عنوان المرحلة ثورة مزدوجة يقودها الملك والشعب[48]. بيد أن استرداد السيادة والشروع في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها لم يحظ بالإجماع الذي قاد النضال الوطـني وحكم مسيرته، فكانـت النتيـجة أن تجددت الأسئلة التي ظلت معلقة، وفي صدارتها سؤال الحكم والسلطة ودسترة النظام السياسي.
لم يكن حزب الاستقلال، خلافا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خارج مدار تفكير المؤسسة الملكية لما يجب أن يسير عليه النظام السياسي، وإن انطوت كتابات علال الفاسي على قدر مهم من الاجتهاد في تحليل عناصر تأسيس النظام وبناء مؤسساته وضبط السلطة وآليات ممارستها[49]. فالمؤسسة الملكية تغيت مبدأ التدرج في الارتقاء نحو وضع الدستور ودمقرطة النظام على خلفية أن الشعب-لاعتبارات تاريخية وموضوعية –لا يمتلك التربية و النضج السياسيين الكافيين بإسعافه في الاندماج في عملية المشاركة المباشرة والسريعة. فهكذا، بينما طالب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بضرورة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور والإسراع في صياغة القوانين الانتخابية قصد تكوين برلمان بالاقتراع العام يتولى ممارسة السلطة التشريعية، تجنب حزب الاستقلال الدخول في مناقشة الشكل الذي يجب أن توضع بواسطته الوثيقة الدستورية، معتقدا أن المغرب في حاجة إلى دستور بغض النظر عن أسلوب وضعه طالما أنه سيطرح على الاستفتاء الشعبي[50]، الأمر الذي يفسر مشاركته في عضوية مجلس الدستور (26 آب/ أغسطس 1960) الذي عين الملك محمد الخامس كافة أعضائه وأناط بهم مهمة إعداد وثيقة ستكون أول دستور للبلاد، وأيضا مساهمته في اقتراح إصدار قانون أساسي للمملكة بعد فشل تجربة مجلس الدستور وانتقال العرش إلى الملك الراحل الحسن الثاني في أعقاب وفاة والده (فبراير/ شباط 1961).

ليس الغرض في هذا المقام متابعة تطور الأحداث الدستورية والسياسية خلال مرحلة مفصلية في سيرورة دسترة النظام السياسي المغربي(1956-1962)، بل المبتغى إثـارة قـضية مركــزية في العلاقة بين الحزبين وفي علاقتهما معا بنظرية الحكم وتوزيع السلطة وآليات ممارستها. فالأمر هنا لا يتعلق بمسالة شكلية أو تقنية، بل بجدل سياسي عميق طال إشكاليات السيادة، والمشروعية والتمثيلية. فبينما حسمت الخطب الملكية موضوع السيادة حين أكدت على أن “سيادة البلاد تتجسم في الملك، الذي هو الأمين عليها والحفيظ لها”[51]. واستبعدت الفصل العمودي للسلط، الذي كرس سمو المؤسسة الملكية وخولها مكانة سميقة تعلو كل السلط ولا تندرج ضمن دائرة التقسيم المألوف في نظرية “مونتيسيكو”، بل جعل الفصل مقصورا على السلـطـتين التشـريعية والتنفيذية (الحكومية)، مقابل ذلك سعى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وتنظيمات أخرى إلى جانبه[52]، إلى الدفاع عن أطروحة مغايرة، قوامها وضع دستور من لدن جمعية تأسيسية منتخبة، تستمد مشروعيتها من الشعب مباشرة، وتنوب عنه عبر التفويض في صياغة أول وثيقة دستورية للبلاد تحدد فلسفة الحكم، ومبادئ الدولة، وتنظم السلطة وتوزعها وتحدد آليات ممارستها.
لقد شكلت المسألة الدستورية أول حلقة مفصلية في الاختلاف حول مغرب ما بعدا لاستقلال، وبمنطق السياسة لم يكن الأمر مذهلا أو غير متوقع، ولربما تحتاج تجربة الحركة الوطنية مزيدا من الجرأة وكثيرا من النقد لتفكيك تاريخها الاتفاقي وإعادة صياغته على أسس أكثر علمية ووضوحا وعمقا، ونميل إلى القول أن نجاح شعار “المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي”، الذي يتم تداوله الآن بكثافة في الخطاب الرسمي وأدبيات الأحزاب الوطنية رهن إلى حد بعيد بمدى التوفق في إنجاز عملية التفكيك وإعادة البناء. ترتبت عن الموقف من الدستور نتائج سياسية واستراتيجية هامة في العلاقة بين حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. فقد دخلت النخبة الوطنية دائرة الصراع حول رسم قسمات النظام السياسي المغربي منقسمة على نفسها مقابل مؤسسة ملكية مستجمعة لكل قواها، مستثمرة واقع الوهن في جسم الحركة الوطنية، فكانت النتيجة أن حظي مشروع الدستور في استفتاء 7 ديسمبر/ كانون الأول 1962 بنسبة قبول عالية وصلت 97،86% من الأصوات المعبر عنها[53].
2- موازاة لذلك، لم يمنع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية -الذي عارض الدستور وقاطع الاستفتاء- من المشاركة في أول انتخابات تشريعية في البلاد(17 مايو/ أيار 1963)، علما أنه تحفظ، إلى جانب حزب الاستقلال على النظام الانتخابي كما أقره ظهير فاتح سبتمبر/ أيلول 1959، الذي أخذ بأسلوب الاقتراع الأحادي الاسمي الأكثري على دورة واحدة[54]. فقراءة نتائج العمليتين الانتخابيتين اللتين أجريتا لأول مرة بعد الاستقلال، توضح دقة الانشقاق الذي حصل في حزب الاستقلال وخطورة أبعاده على مكانة الحركة الوطنية ودورها في الحياة السياسية المغربية. فحزب الاستقلال لوحده حصل في الانتخابات الجماعية التي جرت بتاريخ 29 مايو/ أيار 1960 على 40% من المقاعد على الصعيد الوطني، متبوعا بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية ب23 % مما “يعني أن لولا الانشقاق لعادلت قوة الحزبين معا ثلثي المجالس البلدية والقروية، ويفيد في المقابل، أن النظام الانتخابي المعتمد ساهم بشكل قوي في إقامة تعددية حزبية مندرجة ضمن الفلسفة المؤطرة للمفهوم الملكي لدسترة السلطة وبناء مؤسساتها”[55]. والملاحظة نفسها تنسحب على الانتخابات التشريعية لتكوين مجلس النواب حيث كان نصيب حزب الاستقلال أربعين (40) مقعدا متبوعا بسبعة وعشرين (27) للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، من أصل 144 مقعدا المكونة للمجلس، مما يعني أنهما اقتربا من تحقيق الأغلبية المطلقة.
تكمن أهمية استحضار التجربتين الانتخابيتين في إبراز عمق الشرخ الذي طال جسد الحركة الوطنية وتأثيره على ميزان القوى الناظم للصراع حول تأصيل مفاهيم السيادة والمشروعية والتمثيلية غداة الانطلاق في إعادة بناء الدولة الوطنية. فإذا كانت السياسة قد نجحت في انفراط عقد العائلة الوطنية التي وحدها المستعمر ولحمها مطلب الاستقلال فكيف نفسر عسر النخبة الحزبية في إدارة الاختلاف وترشيد خسائره؟ فهل تسعفنا مفاهيم البحث الاجتماعي وطرائقه في التماس أجوبة شافية عن هذا السؤال وغيره؟ أم أن الأمر يستلزم تنويع مقتربات التحليل لفهم حقبة ظلت سجينة صدور أصحابها ولم تحظ بعد بالقدر الكافي من البحث والتدقيق.[56] 3- في مجتمع مركبSociété composite، كما هو حال المغرب الأقصى يصعب النظر إلى مثل هذه الأسئلة من زاوية محددة بعينها، فقد هيمن المقترب الانقساميApproche ségmentariste لزمن طويل على مدركات فهم النظام السياسي المغربي وآليات اشتغاله، ودور النخبة ومكانتها السياسية. فحتى وقت قريب استمر حضور صاحب كتاب “الملكية والنخبة السياسية في المغرب”[57]، ضاغطا على وعي الباحثين المغاربة وطرق معالجتهم لطبيعة نظامهم السياسي، ولربما شجع انسداد دائرة المجال السياسي وضيق أفق المناقشة والاختلاف والنقد على إشاعة فكرة نزوع المغاربة الفطري إلى الانقسام وميلهم الطبيعي إلى التوحد لحظة الإحساس بالخطر الخارجي.[58] فمن مداخل تفسير واقع الانقسام داخل النخبة الوطنية، نرجح فرضية ضعف المشروع السياسي لديها، وعسر تمثلها قيمة الاعتراف بشرعية الاختلاف وامتلاك القدرة على إدارته وترشيده، مقابل مؤسسة ملكية حاضرة بقوة، تستثمر بانتظام موروثها الديني والتاريخي، وتسعى بشكل دؤوب إلى تقعيد عناصر اللعبة السياسية عبر تأصيل فلسفتها الخاصة لمفاهيم الحكم والشرعية والتمثيلية، نلمس ذلك في طبيعة النقاش الذي ساد لحقبة الفاصلة ما بين 1956-1962، والتي أثرنا جوانب منها في الفقرات السابقة.
فقد كان واضحا لدى المؤسسة الملكية أن الأمر لا يتعلق بقراءة جديدة للتراث الإسلامي والاجتهاد في عناصره ومقاصده، لأن ذلك من شأنه فتح المجال أمام تنافس الشرعيات، وتعدد المستفيدين من راس المال الرمزي في بناء المشروعية وإعادة إنتاجها، والحال أن الملكية استثمرت جانبا من رصيدها المفقود في سجل الحركة الوطنيةوأحزابها، يتعلق الأمر بالدين وما يرتبط به. فقد أكسب النضال ضد المستعمر صفة الازدواجية في الشرعية الوطنية للطرفين معا، بيد أن الملكية وجدت في الوعاء الديني ما ساعدها على الحفر عميقا في التراث لبناء مسوغات كفيلة بتطويع نتائج التفسير والتأويل وجعلها في خط التناغم مع مدركاتها لمفاهيم الحكم والشرعية والتمثيلية، وهو ما يفسر طبيعة علاقتها مع العلماء[59]، وفهمها للبيعة[60]، ومبدأ فصل السلطات[61]، وكل ما له صلة باستراتيجية بناء المشروعية وتحديد قواعد اللعبة السياسية[62].
حين نقرأ إنتاجيات النخبة الوطنية واجتهاداتها في هذا المجال[63]، نلاحظ نوعا من التباين في مقاربة العلاقة مع التراث وتحليل حدود الاتصال والانفصال بين الدين والسياسة في صياغة الأسس الفلسفية لنظرية الحكم في المغرب. ومن اللافت للانتباه أن بقدر ما تباعدت معالجات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال وحرصت على فهم علاقة الدين بالدولة خارج دائرة النظر الملكي، بالقدر نفسه اقترب الاتحاد الاشتراكي من هذه الدائرة وانغمس في مسارب تفكيرها. فهكذا تحيل وثائق المؤتمر الاستثنائي (1975)[64] على مكامن القطيعة مع الاتحاد الوطني وعناصر الاستمرارية في الاستراتيجية الجديدة للحزب. لعل المقام لا يسمح بإبراز سعي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من خلال كتابات أبرز رموزه[65]، إلى التفكير في السياسة بعيدا عن دائرة العقيدة وتوظيفاتها الإيديولوجية[66]. فقد شدد عبد الله إبراهيم في أكثر من مقام على نظرية الحكم في المغرب منتقدا أساسها الفلسفي المبني على الطاعة المطلقة، والقوة الصارمة، وشخصنة السلطة[67]، الأمر الذي يفسر لماذا أولى أهمية خاصة لفكرة العقد الاجتماعي في سياق مقاربته لعلاقة الدين بالدولة والأسس النظرية لنظام الحكم. فالإشكالية المركزية في فكره “تكمن في طبيعة العقد الاجتماعي الذي يربط بين الغالبية الساحقة من الشعب ومن يقوم بتمثيلهم سياسيا”[68]، إنه يروم إعادة بناء العلاقة بين الدين والدولة بالشكل الذي يساعد على القطيعة مع جذور الثقافة السياسية السلطوية ويفتح المجال أمام المشاركة المؤسسة عـلى الإرادة الحرة والمسؤولة.
تميز حزب الاستقلال، خلافا للتنظيمات التي رامت تضييق حيز الدين في السياسةـ بقدر كبير من الوضوح في صياغة تصوراته للمجالين الديني والسياسي وطبيعة التقاطعات بينهما. فليس صدفة أن ينعت زعيمه علال الفاسي بأحد “أساطين السلفية في المغرب”[69]، هذا الذي ساهم بثقافته العربية الإسلامية التقليدية، وانفتاحه الموزون على التراث الفكري الغربي، بدور حاسم في الارتقاء بالعقيدة إلى أولوية الأولويات في المنظومة الفكرية للحزب. لا يسمح المقام بالتفصيل في فكر هذا الرجل [70] الذي طبع مسيرة الحزب، دون أن يتوفق في استمالة جل مناضلي تنظيمه وأطره القيادية إلى تمثل فكره وترجمته إلى وقائع على صعيد الممارسة[71]. فالجوهري عنده حين مقاربة علاقة الدين بالدولة، التمييز بين “إسلام ثابت متعال وإسلام حائل مجسد في سلوك الناس. الأول وحده حقيقي، فيجب إنقاذه بكل الوسائل ومهما كان الثمن. أما الثاني فهو ظاهري فقط فلا يضر نقده والتخلي عنه”[72]، فكأننا به يفصل بين الإسلام السامي فيدعو إلى النهل من منابعه، والإسلام التاريخي الذي لا يتحمل مسؤولية أصحابه فينادي بالقطيعة مع تجاربه. والحال أن على خلفية هذا الفهم عالج علال الفاسي مجمل المفاهيم التي شكلت مدار نقاش و اختلاف غداة استقلال المغرب، وانخرط في دينامياتها السياسية. ففي باب “مسالك الفكر” من مؤلفه النقد الذاتي (1952)، حدد معنى السلطة وعلاقتها بالمصلحة العامة ودور أفراد الأمة في الاهتمام بالسيادة. فـ” السلطة كامنة في الأمة، ومنها تصعد إلى أيدي الرؤساء وأولي الأمر، ومن حق الأمة وواجبها أن تظل حارسة على مواطن الاستعمال لما هو مـنها وإليها”[73]. غير أن منزع التوفيق الذي طبع فكره لم يمهله في أن يذهب بعيدا في الدفاع عن استقلالية الأمة بسيادتها وحقها في التمتع بها واستثمار نتائجها الدستورية والسياسية. لذلك كان صريحا في الدعوة إلى الجمع بين المصادر العصرية لمبدأ السيادة والإرث التاريخي للنظام السياسي المغربي، مستخلصا ضرورة الإصلاح والتنقيح لتطوير “نظامنا العتيق وجعله أكثر قدرة على مسايرة هذا العصر وحاجاته…”[74]، وبنفس القدر من الصراحة ان واضحا في موضوع الملكية وشرعيتها في قيادة البلاد. فالمغرب عنده لم “يعرف منذ أربعة عشر قرنا شكلا للحكم غير الملكية، فالعرش بقي رمز وحدته، ودليل ماضيه والذي سيكون عامل التوازن الاجتماعي فيه ولكن هذا لا يعني أن الملكية لا تتطور إلى شكل دستوري على غرار ما يجري في إنجلترا أو في البلدان الإسلامية اليوم”[75]، وبالنتيجة يستوجب قبل كل شيء النظر”إلى صاحب العرش –جلالة الملك- كشخصية فوق الأحزاب وسائر الاعتبارات السياسية التي يمكن أن يتناقش فيها الرأي العام، بصفته الحارس الأمين لسير السلطة وأعمالها، ويجب أن تتكون من حوله صوفية الاستقرار الحكـومي والوعي الوطني والاستمرار الوجودي للدولة…” [76]. ونميل إلى الاستنتاج أن تصورات من هذا القبيل ساهمت بقسط وافر في صياغة الفصل التاسع عشر (19) من الدستور المغربي[77]الذي اكتسى مكانة خاصة بفعل التأويلات التي طالت مقتضياته منذ 1983[78]، والتي لم تستوعب الطبقة السياسية أبعادها على توازنات الفاعلين إلا في السنوات الأخيرة[79]، ففي ظني لم يكن واردا في خلد علال الفاسي مزاحمة المؤسسة الملكية في احتكارها المجال الديني واستثمار موارده الرمزية، لأن الملكية أولى بالأحقية منه في هذا المضمار، بسبب سجلها المناقبي وانتسابها إلى آل البيت، بل كان أفقه من ركب دعوة الإصلاح وإعادة التواصل مع الإسلام السامي والاجتهاد في مقاصده، السعي إلى نزع العتاقة عن المؤسسة وتطوير مفهومها للحكم عسى أن تصبح الظروف ناضجة لقبول مبدأ السيادة المشتركةLa co-souveraineté، التي تعني سياسيا قسمة السلطة وعدم الاستحواذ عليها.
4- الحاصل أن مع الاستفتاء على الدستور الأول (7 ديسمبر/كانون الأول 1962) وإجراء أولى الانتخابات التشريعية (17مايو/ أيار 1963)، والشروع في أول تجربة نيابية (1963-1965)، توضحت معالم النظام السياسي المغربي، والدوائر التي يمكن للفاعلين استثمار مشروعياتهم في نطاقها، والحدود التي يستلزم الوقوف عندها، فالأمر لا يتعلق بعقد سياسي يوضح حقوق وواجبات الفرقاء، يضمنه الدستور وتسهر المؤسسات المنبثقة عنه على احترام بنوده… فمفهوم العقد كما أصلته كتابات هوبز ولوك وروسو غير ممكن التطبيق في المجال السياسي المغربي[80]، كما أن الدفاع عن السيادة المشتركة من زاوية الاجتهاد في العـقيـدة ومقاصدها، غير وارد على صعيد الإنجاز.. الممكن المباح ملكية حاكمة، منتشرة في كل مفاصل النظام السياسي، متمتعة بمكانة محورية خولتها إياها مشروعياتها الدينية والتاريخية والتعاقدية، وكرستها الوثيقة الدستورية وضمنت استمرارها. ولربما كانت هذه النتيجة كافية لإعادة وعي أحزاب الحركة الوطـنية ذاتها واستيعاب الدور المنوط بها. لذلك، سيسعى الحزبان إلى تحويل اختلافهما حول القضايا السياسية المركزية المشار إليها إلى مرتكزات جديدة للتقارب والنضال من داخل الاختلاف قصد استعادة حقهما في المشاركة في بناء الدولة الوطنية. فهكذا، أصبح البرلمان واجهة مهمة للعمل المشترك بين الحزبين الذين شكلا معارضة فعلية في مواجهة “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”[81] بالنظر للمكانة الوازنة لبعض شخصياته، وبسبب نوعية القضايا المطروحة على البرلمان وقتئذ[82]. بيد أن التدبير السياسي للعلاقة بينهما ستفرضه الوضعية الجديدة التي دخلتها البلاد بعد إعلان الملك حالة الاستثناء في 7 يونيو حزيران 1965 التي يقضي بها الفصل الخامس والثلاثون من الدستور. فقد عطل العمل بالدستور وتوقفت الحياة النيابية وحل الملك محل المؤسسات الدستورية، وبدا المغرب وكأنه يتواصل من جديد مع مرحلة ما قبل الدستور!!.
تستمد حالة الاستثناء قيمتها المرجعية من كونها شكلت مؤشرا دالا عن مأزق العلاقة بين أحزاب الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية. فعلى الرغم من التفوق المظهري للملكية في تكريسها الدستوري لمفاهيم الحكم والشرعية والتمثيلية وقدرتها الواضحة على ضبط توازنات الحقل السياسي، فإن حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني على ضعفهما التنظيمي وصعوبة إدارة اختلافهما، استمرا مدافعين عن حقهما في التمتع بحضور منتظم في الحياة السياسية يوازن حجم نضالهما الوطني، كما ظلا متمسكين بضرورة خلق شروط المصالحة الوطنية القادرة على إعادة الاعتبار للعمل السياسي وإكسابه قدرا من الصدقية تخرجه من دائرة الضياع وتمنحه إمكانيات الاستقامة والانتظام، لعل ذلك ما يفسر صعوبة استجابة الحزبين للعروض الملكية التي سبقت لحظة الإعلان عن حالة الاستثناء، فهل أخطأ المغرب الرسمي في إقرار حالة الاستثناء، ونجح حزبا الاستقلال والاتحاد الوطني في التحفظ على العرض الملكي؟ أم أن الخاسر الحقيقي هو الوطن المغربي الذي وجد نفسه يـلـج دائرة الضـياع وفقدان التوازن بسبب سيادة نظرية “الفارس الوحيد Le cavalier seul”، ونتيجة ضغط منطق الإقصاء المتبادل؟
لا يسمح المقام بمناقشة سلامة اللجوء إلى حالة الاستثناء من عدمها، يهمنا منهجيا قراءة الحدث من زاوية الاستراتيجيات الجديدة للفاعلين السياسيين. فعلى صعيد الحركة الوطنية، سنلاحظ بروز وعي جديد لدى حزب الاستقلال ونظيره الاتحاد الوطني، قوامه البحث عن أرضية مشتركة تحافظ على مكانتهما وتسمح لهما بتجنب واقع التهميش والإضعاف الذي شكل أحد مقومات استراتيجية المؤسسة الملكية عند الشروع في تطبيق حالة الاستثناء. لعل أوضح إنجاز قام به الحزبان تشكيل “الكتلة الوطنية” والتوقيع على ميثاقها في 22 يوليو/ تموز 1970، مباشرة بعد الإعلان عن انتهاء حالة الاستثناء والتصريح بوضع دستور جديد[83]. فهل شكل ميثاق الكتلة منعطفا نوعيا جديرا بخلق ثقافة جديدة قادرة على تمكين الحزبين من تحويل اختلافهما إلى قوة تنظيمية مؤثرة في الحقل السياسي المغربي؟. لا تسعفنا قراءة ميثاق الكتلة [84]، والمسار الذي آلت إليه في الإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال. فإذا تركنا جانبا تصريحات قادة الكتلة[85]، وتقييمات عديد الباحثين، نميل إلى القول بأن الكتلة لم تؤسس نتيجة مشروع سياسي جهد أصحابه في مناقشة حيثياته بعمق وتفوقوا في إنضاج شروط إنجازه، بسبب أن روح الانشقاق استمرت ضاغطة على وعي قادة الحزبين ومدركاته، كما ساهمت وضعية التنظيمين في إذكاء روح التعثر في إنجاز المشروع.[86] ومع ذلك تمكنت الكتلة من صياغة موقف موحد للحزبين إزاء مشروع الدستور(1970)، حيث تمت مقاطعته، وحيال الانتخابات التشريعية (غشت/ أغسطس 1970) التي لم يشارك فيها الحزبان.

ثانيا: على صعيد العمل المشترك
نقصد بـ ” العمل المشترك” أشكال التنسيق ولحظات التقارب التي شهدتها العلاقات الثنائية بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وتنظيمات سياسية جديدة منحدرة من هذين الحزبين أو قريبة منهما[87].
يسود الكتابات التي تناولت بالتحليل الحقل السياسي المغربي ومكوناته تحقيب يتخذ من سنة 1974 منطلقا نوعيا فاصلا بين مرحلتين في تطور الحياة الدستورية والسياسية المغربية. وقد استمد هذا الرأي قوته المرجعية من مجموعة متغيرات داخلية أهمها الإجماع الوطني حول إسترجاع الأقاليم الجنوبية، ودقة التوترات التي اخترقت مؤسسات الدولة أعوام 1971-1972-1973 [88]، والدينامية الجديدة في العلاقة بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية[89]. ولأن اكتسى هذا التحقيب قدرا ملحوظا من قبول الباحثين والفاعلين السياسيين، فإن استراتيجيته في فهم طبيعة المرحلة تبقى نسبية إذا وظفنا مقتربات ومقولات مغايرة من حقل العلوم الاجتماعية، كما فعل باحثون مغاربة وأجانب[90]. فقد ساعد مفهوم “الباتريمونيالية Patrimonialisme ” و”الباتريمونيالية الجديدةNéo-patrimonialisme “على الاقتراب من تشخيص واقع الدول التي تأسست نظمها السياسية على شخصنة السلطة والنزوع إلى السيطرة الأبوية والنفوذ المعنوي اعتمادا على قدراتها العسكرية واستحواذها على مصادر الثروة وطرق توزيعها. ففي نظم مؤسسة على مثل هذه الخصائص تظل حظوظ انفتاحها السياسي رهينة وضعها المالي، حيث يتقوى سلطانها كلما كانت مدعمة بما يكفي من الموارد المادية والرمزية، وبمفهوم المخالفة تميل إلى الانفتاح كلما ضعفت شوكتها نتيجة شح مواردها وضعف قدرتها على التوزيع.. لذلك، نميل إلى ترجيح سنة 1983 كتحقيب لبداية تشكل المرحلة الجديدة وفهم طبيعة التحولات التي طالت الحياة السياسية المغربية[91]. ومع ذلك يحتفظ تاريخ 1974 ببعض مؤشرات التفسير بالنسبة لأداء حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، سواء في دائرة ما هو مشترك أو في علاقتهما بالمؤسسة الملكية. ففي هذا التاريخ فقد حزب الاستقلال زعيمه علال الفاسي (1910-1974)، لينتخب أمينا عاما خلفا له خلال انعقاد مؤتمره التاسع (سبتمبر/ أيلول 1974)، الذي عكست وثائقه استراتيجية الحزب في الانتقال من المعارضة إلى المشاركة مدشنا ذلك بانضمامه، لأول مرة منذ 1963، إلى حكومة 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1977، وقد أفرد في مؤتمره العاشر (21 –23 أبريل/ نيسان 1978) حيزا لمسوغات الإقدام على هذا الانتقال.[92] في حين سيشكل المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (1975) قطيعة مع بعض جوانب التجربة الحزبية التي قادها الاتحاد الوطني منذ تأسيسه (1959)، وحتى تاريخ انشقاقه (1972). فهكذا، سيفصل عبد الرحيم بوعبيد في لقائه مع الملك الحسن الثاني صيف 1974 في اعتماد النضال الديمقراطي اختيارا استراتيجيا قبل أن تتبناه وثائق المؤتمر بالمناقشة والتصديق، مما يعني أن الحزب خرج نظريا وإيديولوجيا من دائرة التجاذب بين منطق الداعين إلى النضال الجذري ودعوة المنتصرين إلى التوافق في العلاقة مع الدولة ومؤسساتها[93].

1- في البحث عن صيغ العمل المشترك من داخل المعارضة

من الملاحظ أن المؤشرات المومأ إليها أعلاه لم تدفع حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي إلى صياغة استراتيجية مشتركة محددة العناصر ومكتملة الأبعاد، وفي الوقت نفسه لم تجعلهما متباينين من حيث طبيعة وعي المرحلة الجديدة وإدراك دقتها السياسية، ولربما شكل الإجماع الوطني حول ملف الصحراء المغربية مدخلا مفصليا لإعادة الاعتبار لإرثهما المشترك واستثماره لإنجاز مشروع تحرير الأرض ودمقرطة المؤسسات.. فبينما اندفع حزب الاستقلال في دينامية المشاركة الحكومية طيلة ست سنوات (1977-1983)، استمر الاتحاد الاشتراكي معارضا[94] ينتقد أداء المؤسسات ويدعو إلى اعتماد سياسات بديلة كفيلة بتجسير الفجوة بين الدولة والمجتمع، وإعادة الاعتبار لمفهوم المشاركة السياسية. فالحاصل أن الإجماع الوطني، وإن فتح المجال أمام الفاعلين السياسيين لتجاوز روح حالة الاستثناء، فقد تعثر في خلق توافق واضح وملموس حول قواعد اللعبة وضمانات احترامها على صعيد الممارسة. ولربما اقتضى الأمر قدرا من الوقت لإعادة بناء الثقة بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، سيما حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.

أ- فعلى الرغم من التصريحات التي أعقبت لقاء يونيو /حزيران 1974 بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحيم بوعبيد[95]، بخصوص تكوين المؤسسات التمثيلية وضمان احترام إرادة الجسم الانتخابي، فإن الممارسة جاءت بعيدة عن النوايا المعلن عنها، حيث شابت الانتخابات الجماعية (12 نوفمبر/ تشرين الثاني1976) والتشريعية (يونيو/ حزيران1977) خروقات على الرغم من إحداث مجلس وطني وهيئات إقليمية لتتبع ومراقبة حسن سريانها.
لم تكن تقييمات حزب الاستقلال سلبية حيال انتخابات 1976-1977، فقد اعتبر نفسه القوة الأولى من بين الأحزاب المشاركة، لذلك ساهم، كما أسلفنا، في حكومة 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1977، التي شكل “المستقلون” محورها، هؤلاء الذين سيتحولون إلى حزب سياسي جديد (التجمع الوطني للأحرار)، وسيتبين أنهم لا يستمدون شرعية ميلادهم من ذاتهم، بل من استراتيجية المؤسسة الملكية القاضية بخلق حزب أغلبيparti majoritaire في أعقاب كل استحقاق انتخابي أساسي. فاللافت للانتباه أن سياسة من هذا القبيل لم تكن غائبة عن حزب الاستقلال، فقد جرب نتائجها خلال الولاية التشريعية الأولى (1963-1965) حين وجد نفسه بمعية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أمام كتلة لا تجمع مكوناتها أية شرعية أو برنامج مشترك سوى مواجهة أحزاب الحركة الوطنية والتحكم في التوازنات داخل المؤسسات الدستورية[96]، ولعل من صدف التاريخ أو مكره أن يعاد المشهد نفسه عام 1983 حين لم تسمح التوترات الداخلية التي طالت “التجمع الوطني للأحرار”[97] باستمراره حزبا أغلبيا، وبدأ البحث عن حزب أغلبي جديد خلال انتخابات 1983 و1984 سيحمل، في أعقاب مؤتمره التأسيسي (9-10 أبريل نيسان 1983) اسم “الاتحاد الدستوري”، وسيسعي إلى الدفاع عن شعار تعاقب الأجيال على تحمل المسؤولية، وسيقدم نفسه حزب الجيل الجديد الذي بدأ “يتأهب لأخذ أمانة المسؤولية من جيل الاستقلال”[98].

ب- ليس الغرض في هذا المقام التدقيق والتفصيل، لأن الحياة السياسية المغربية غنية بالمعطيات والأحداث، هدفنا الإمساك بالمفاصل المفسرة لضعف الممارسة الديمقراطية داخل الحقل السياسي المغربي، الذي تشكل الأحزاب السياسية اهم مكوناته. فالديمقراطية الحزبية تكتمل ويتعمق مضمونها حين تتوفر شروط الديمقراطية في الدولة والمجتمع.. لم يكن ممكنا في غياب رؤية واضحة، مدروسة، ومدققة لمفهوم التوافق خلق شروط “المغرب الجديد”[99]، الذي رفع شعاره الفاعلون السياسيون، الذين اعتبروا الانتخابات اختبارا لصدقيته. فالواضح أن استراتيجية المؤسسة الملكية استمرت محافظة على ثوابتها في مجالات التحكم في التوازنات السياسية، وإعادة هيكلة الحقل الحزبي، والاستحواذ على الموارد المالية والرمزية وآليات توزيعها، مقابل أحزاب وطنية أنهكتها التوترات الداخلية[100]، وتعذر عليها صياغة رؤية جديدة كفيلة بتحويل العمل المشترك على أداة مؤثرة في ميزان القوى الناظم للحياة السياسية. غير أن حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وإن تعثرا فكريا في تحويل الاختلاف من مصدر للإعاقة إلى ضرورة للفعل، فقد أجبرهما الواقع –وهذا هو منطق السياسة- على البحث عن المشترك، سيما مع توسع دائرة الاحتجاج داخلهما[101]، وتزايد دور المؤسسة الملكية وانتشار حضورها المادي والرمزي[102].

ج- فقد اسفرت سياسة إعادة التقويم الهيكلي المعتمدة في المغرب مع 1983 عن نتائج اجتماعية عميقة على الرغم من قدرتها الواضحة على ضبط التوازنات العامة وتخفيض ضغط المديونية. فمن جهة، لم يعد المغرب الاجتماعي قادرا على تحمل حصيلة أداء المغرب السياسي، فكان طبيعيا أن يعبر عن نفسه كما حصل في أزمات الحواضر الكبرى سنوات 1981-1984-1990. ومن جهة أخرى، تراجعت القدرة التوزيعية للمؤسسة الملكية بفعل شح الموارد و نضوب مصادرها. فقد وجد الفاعلون السياسيون في إعادة طرح مسالة الإصلاح الدستوري والسياسي محورا لتجديد النقاش حول موضوع التوافق وأبعاده، ولربما كانت التغيرات النوعية التي طالت النظام الدولي مصدرا محفزا لمعاودة التفكير في قضية الانفتاح السياسي وحدوده.

د- اتسم عقد التسعينيات بكثافة دستورية لم يشهداها عقد سابق من قبله. فقد اجريت ثلاثة استفتاءات خلال خمس سنوات (1992-1995-1996)[103]، كما تميز بديناميات سياسية لافتة للنظر تجلت في توالي المفاوضات بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية، توجت بانبثاق سلطة حكومية جديدة اتخذت في أدبيات الأحزاب نعت حكومة “التناوب التوافقي” (14 مارس/ آذار 1998)، إضافة إلى حصول انتقال سلس للعرش وفق مقتضيات الدستور والأعراف والتقاليد الجاري بها العمل (30 يوليو/ تموز1999). فقيمة هذا العقد تكمن في نوع التقاربات التي طبعت علاقة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وطبيعة التفاعلات التي حكمت علاقتهما بالمؤسسة الملكية.. فقد بدا الطرفان وكأنهما يجهدان من أجل استدراك حيزمهم من الزمن التاريخي الذي ضاع بسبب نزعة الإقصاء والإقصاء المتبادل[104]. لقد فهم كل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي مغزى التصريح الملكي بشأن الإصلاح الدستوري فبادرا إلى تقديم مذكرة في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1991 عكست تصورهما المشترك لمفهوم الإصلاح في شقيه الدستوري والسياسي، كما سعيا إلى توسيع دائرة المطالبة بإحداث الكتلة الديمقراطية في 16 مايو/ آيار 1992 [105] كي تكون قوة تفاوضية قادرة على إنجاح ملف الإصلاح. فإذا استثنينا اللحظات المحدودة التي جمعت حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ودفعت بهما إلى التنسيق داخل البرلمان أو خلال الاستحقاقات الانتخابية، يبقى حدث تأسيس الكتلة شكلا متطورا من أشكال العمل المشترك بين الحزبين وباقي التنظيمات السياسية الوطنية[106].

2- في ممارسة العمل المشترك من موقع السلطة

شكل صعود الاتحاد الاشتراكي إلى السلطة وقيادة كاتبه الأول السيد عبد الرحمن يوسفي حكومة 14 مارس/ آذار 1998 منعطفا جديرا بالاهتمام العلمي والسياسي. فبغض النظر عن القراءات المتعددة التي تفاعلت مع الحدث وسعت إلى تأويل أسباب نزوله[107]، نعتبر انتقال الاتحاد الاشتراكي من المعارضة إلى السلطة لحظة مميزة في الحياة السياسية المغربية.

أ- فتح ملف الإصلاح الدستوري والسياسي، الذي بادر إليه حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي أولا ثم الكتلة الدمقراطية لاحقا، ديناميات جديدة للحوار بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية، غير أن اللافت للانتباه هذه المرة أن المفاوضات التي تأرجحت لعدة سنوات (1993-1998)، لم يكن قصدهما استبدال دستور بآخر،بل إحلال سلطة مكان أخرى، أو بلغة السياسة البحث عن شروط وإمكانيات التناوب بين الأغـلبية والمعارضة، وهو ما لم يحصل منذ إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في مايو/ أيار 1960. فقد تمكن العمل الثنائي بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، والجماعي داخل الكتلة الديمقراطية من بلورة تصورات حول مداخل الإصلاح وابعاده، عبـرت عنها المذكـرات الثـلاث (1991-1992-1996)[108]، المرفـوعة إلـى المـلـك والمعززة باللقاءات التفاوضية بخصوص فحوى المطالب وحدود الاستجابة الملكية لها. وقد بدا من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية وكأن الطرفين يبحثان عن ارضية مشتركة تؤهلهما لإنجاز مشروع الانتقال التوافقي.

ب- وجد حزب الاستقلال ونظيره الاتحاد الاشتراكي في شعار الإصلاح مناسبة لإعادة التوحد حول إحياء فكرة التعاقد مع المؤسسة الملكية، فقد دافعت أدبيات الحزبين وصحافتهما في أكثر من مقام عن هذاالأمر، مستبعدة أن يكون ذلك تعبيرا عن مرحلة جديدة مفصولة عن التاريخ الوطني، حيث يروم الطرفان تجديد التواصل مع روح عريضة الاستقلال (11 يناير /كانون الثاني 1944)، التي كرست تعاقد الملك مع النخبة الوطنية حول شعار الاستقلال وأفق بناء الدولة الوطنية. ولإن تميز خطاب الطرفين بالتداول المكثف لمصطلحات التوافق، التراضي، التناوب، فإن المضامين الثاوية خلف هذه المفاهيم لا تعكس وجود تصور مشترك واستراتيجية موحدة للإنجاز[109]، فقدا ستمر الطرفان يبحثان عن الواقعي والممكن في العلاقة بينهما، الأمر الذي يفسر تعثر العرض الملكي بشأن التناوب على السلطة عامي 1993– 1994 [110]. فعلى الرغم من انطواء مذكرات الكتلة الديمقراطية على المطالبة بتعديل الوثيقة الدستورية وإصلاح الوضع السياسي، حظيت قضية الانتخابات بمكانة مركزية في استراتيجية الفاعلين الحزبيين.. حيث اعتبرت نزاهة الانتخابات مدخلا لتكوين حكومة قادرة على العمل بانسجام وتضامن ومسؤولية، ولربما اعتقدت الأحزاب الوطنية أن التزام الإدارة بالحياد في عملية سير الانتخابات سيفضي إلى الفوز المؤكد لمرشحيها، وسيسمح لها عندئذ بالانتقال إلى السلطة، استنادا إلى شرعية انتخابية تقرها صناديق الاقتراع وتكفلها نتائجها.

ج-فمن عناصر ترجيح هذا الافتراض اتساع مساحة التقارب بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وعملهما الوازن داخل الكتلة، وانخراطهما الواسع في الاقتراب من دائرة الممكن في دينامية التوافق التي انطلقت منذ مستهل عقد التسعينيات. فلأول مرة في تاريخ الاستفتاءات الدستورية[111]، سيصوت الاتحاد الاشتراكي بالإيجاب على وثيقة الدستور (13 سبتمبر/ ايلول 1996)، كما ستوقع الأحزاب السياسية مع السلطات العمومية على تصريح مشترك (28 فبراير/ شباط 1997)، هو الأول من نوعه في تاريخ البلاد، اعتبر وقتئذ بمثابة ميثاق شرف، تلتزم الدولة من خلاله بالحياد وصيانة نزاهة الانتخابات، وتتعهد الأحزاب بدورها بعدم التشهير بنتائج الانتخابات والاعتراف بصحتها. فقد بدا للفاعلين السياسيين وبعض قطاعات الرأي العام، وكأن الأمر حسم بالنسبة لأعقد وأخطر قضية في تطور الحياة السياسية المغربية، أي الانتخابات وما يرتـبط بها ويتفرع عنها، علما أن الفهم السليم لإشكالية التغيير في أي مجتمع لا يرتبط بالإعلان عن النوايـا وإن وقع تضمينها في مواثيق وصكوك، بقدر ما يرتهن بمحددات ذات صلة عميقة بالإرادة السياسية، ودرجة وعي المجتمع، وطبيعة الثقافة السياسية السائدة. ففي أول انتخابات تشريعية أعقبت التصريح المومأ إليه أعلاه وجد المغرب نفسه سجين عش العنكبوت، ولم تتردد أحزاب الكتلة في الاعتراض، بدرجات متفاوتة، على نتائج انتخاب أعضاء مجلسي النواب (14 نونبر /تشرين الثاني 1997) والمستشارين(5 دجنبر/كانون الأول 1997)[112].. فهل من الجائز منطقيا أن تشارك هذه الأخيرة في العمل الحكومي وتقوده بعد مرور أقل من أربعة أشهر على الانتخابات المطعون في نزاهتها؟ أم كان حري بها الاستنكاف عن كل ذلك؟.

د- ربما لا يلمس “السياسي” ضرورة أو فائدة في طرح مثل هذه الأسئلة، فالسياسة لديه “فعل الممكن”..بخلاف الباحث، الذي يجد نفسه وهو يلتمس طريق الحقائق العلمية مضـطـرا على التساؤل والاستفهام.. ولربما ليست العلاقة بين “السياسي” و”العلمي” على هذه الدرجة من التباعد، فقد يحتاج الطرفان في لحظات استراتيجية من هذا القبيل إلى قدر من التواصل قصد استجلاء الرؤى وتعميق الفهم.. غير أن ذلك قلما يسمح به واقع الممارسة في العديد من الأحزاب المغربية، حيث يهيمن النشاط الحركي على النقاش النظري والفكري، ويحتل المثقفون مكانة هي أقرب إلى التواضع منها إلى نعت آخر. فهكذا دخل دائرة التداول السياسي المغربي مصطلح “التناوب التوافقي” لوصف حالة الحكومة التي عين على رأسها السيد عبد الرحمن يوسفي وقادها فترة تجاوزت أربع سنوات(14مارس/ آذار 1998-9أكتوبر/تشرين الأول2002).. فالتناوب لم تقرره صناديق الاقتراع حيث لم تفزر انتخابات 1997 قوة أو تقاطبا قادرا على تكوين حكومة منسجمة بل جاء نتيــجة توافــق إرادتـن: إرادة الملك وإرادة أحزاب الحركة الوطنية.

ه- فهكذا حتم سياق التوافق على حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي البحث عن صيغ ملائمة تضمن للحكومة حدا أدنى من الانسجام في التفكير واستراتيجية العمل. وفي غياب توفر الحزبين على أغلبية وازنة داخل المؤسسة التشريعية، اضطرا على التحالف مع تنظيمات سياسية لطالما انتقدت لحظة تأسيسها، ووقع التشكيك في شرعية ميلادها، يتعلق الأمر أساسا بالتجمع الوطني للأحرار والحركة الوطنية الشعبية.. ولأن الحكومة شكلت في سياق انتخابي غير متوافق على سلامته، فقد بدا عصيا على الوزير الأول انتقاء الأشخاص (قائمة الحكومة) والتقريب بين الأفكار والبرامج، فغدت الحكومة وهي تمارس مهامها وكأنها قطع معزولة في لعبة شطرنج، على الرغم من الصلاحيات الجديدة التي أدخلت على مكانة الوزير الأول في مجالات التنسيق والتنفيذ والمبادرة.. بل اللافت للانتباه أن الأحزاب المكونة للائتلاف الحكومي بدت وكأنها غير معنية بالالتزامات التي يقتضيها العمل المشترك وتستلزمها مسؤولية الأداء الحكومي، الأمر الذي ولد لدى الرأي العام أسئلة مشروعة حول بداية ونهاية الانسجام الحكومي!؟.

خاتمة
سمحت الورقة البحثية باستخراج عديد العناصر التي هي من قبيل الأسئلة المفتوحة أكثر منها استنتاجات قطعية أو نهائية:
1- تتميز التجربة المغربية، خلافا لغيرها من التجارب،، في كون النضال الوطني كان ثمرة مجهود مشترك بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية، ولربما اتسم المغرب بميسم الفرادة في كونه السلطة فيه عادت بشكل طبيعي إلى الملكية، ولم تكن من نصيب حركته التحريرية.. فقد تمتع الطرفان بالمشروعية الوطنية التي جعلت قضية نزع آثار الاستعمار وإعادة بناء الدولة الوطنية مشروعا تتقاسمه إرادتان: إرادة الملك وإرادة الحركة الوطنية. وحيث أن سؤال المستقبل لم يحظ بالأولوية في تفكير النخبة الوطنية ولا في تعاقدها الضمني مع الملك، فقدا كتنف مشروعها السياسي قدر كبير من الإبهام وعدم الدقة، وحتى حين شرعت في استجلاء عناصر البناء بعد الاستقلال، اصطدمت بثقل ضغط بياضات تجربتها، فانقسمت على ذاتها قبل أن تخبو، بالتدريج، مقاصد تعاقدها مع الملكية.
2- تتميز الأحزاب السياسية سليلة الحركة الوطنية بميزة خاصة، قلما نجد مثيلا لها في تجارب حزبية مغايرة. فحزب الاستقلال الذي شكل محور النضال الوطني لم ينهل تصوراته ومبادئه من مرجعية مستقلة خاصة به، بل استمد أجزاء مهمة منها من إرث الدولة المغربية ومجموع تراكماتها السياسية والثقافية، وإن سعت نخبته، في دود معينة، إلى تنويع النظر في هذا الرصيد والاجتهاد في تطويره. لذلك سيكون التحليل غير ذي فائدة إن هو توخى مقاربة تجربة الحزب خارج سياقات هذا الإرث ودور مكوناته، سيما الملكية، التي تطورت في ارتباط عميق مع الدولة ومؤسساتها.
3- يتأسس على ما سلف، أن مسار الديمقراطية ومآلها في المغرب مرتبطان بطبيعة العلاقة بين الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية، وبمدى قدرة الطرفين على إعادة صياغة تاريخهما الاتفاقي، بما يسمح للمجال السياسي بالتطور، والانفتاح، واكتساب المناعة التي تصون قواعده وتضبط علاقات مكوناته. ونميل على القول أن الرهان هنا مشترك بين الملكية والحركة الوطنية، فكما أنهما صنعا حدث الاستقلال وتقاسما مسؤولية نتائجه، مطالبان باستكمال بناء الدولة وإشاعة قيمة الديمقراطية في مؤسساتها.
4- غير أن رهان الديمقراطية يظل عصيا على الإنجاز ما لم يتوفق الطرفان في إقامة قطيعة مـع التقليد، وإعادة الاعتبار لمفهوم الحداثة في الدولة والمجتمع.. ولطالما نعتت الدولة بالعتاقة واتهمت بتوظيف التحديث لخمة التقليد، والحال أن نزعات تقليدية عميقة لا زالت تلف النخبة الحزبية، وتتحكم في استراتيجياتها، وبالنتيجة تعوق إمكانيات تطورها.. ففك الارتباط مع التقليد والانتقال من الحداثة قولا وخطابا إلى تكريسها فعلا وممارسة كفيل بنقل الديمقراطية من مرحلة الشعار إلى مستوى الاختبار والتمثل.. ومع ذلك نميل إلى الاستنتاج أن تغيرات مهمة بدأت في التشكل داخل الأحزاب المغربية سليلة الحركة الوطنية، بفعل تعاقب الأجيال، وتغير المعطيات السياسية والثقافية وازدياد الطلب الاجتماعي، والملاحظة نفسها قد تنسحب على المؤسسة الملكية ودائرة منظومتها القيمية والسياسية.. إن الأمر يحتاج إلى رصد علمي موثق ومضبوط لاستشراف اتجاه هذه المؤشرات وتحليل طبيعة تأثيراتها على واقع ومستقبل الديمقراطية في المغرب.
– [1] نشير على سبيل المثال إلى الاهتمام المتزابد بقضية الديمقراطية لدى عديد الدوائر الأكاديمية ومراكز البحوث والجمعيات الثقافية من قبيل: “منتدى الفكر و الحوار في المغرب الأقصى”، “مركز دراسات الوحدة العربية، و منتدى العالم الثالث”.
– [2] نفكر أساسا في خلاصات “تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002″، انظر على وجه الخصوص فصله السابع الحكم و التنمية الإنسانية” ص.ص. 101-116.
– [3] قارن: د عبد الإله بلقزيز (معد): “المعارضة والسلطة في الوطن العربي، أزمة المعارضة السياسية”، 1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001)، ص 13-26
– [4] انظر د.عبد الوهاب الكيالي وكامل زهيري: “الموسوعة السياسية” ط1 (المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1974)،ص 228
– [5] قارن د. إسماعيل صبري عبد الله : “اليدمقراطيةداخل الأحزاب الوطنية و فيما بينها” المستقبل العربي، 1984، العدد 64 (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية) ص، 156 وما بعد.
[6] – Voir entre autres :
-Duverger (M)، les partis politiques، paris، Colin، 1951
-Michels (Roberts) Les partis politiques : essai sur les tendances oligarchiques des démocraties، Flammarion، 1971.
[7] – Cf. Yves Memy; idéologies، partis politiques et groupes sociaux، presses de la FNSP، 1989، PP 267-343.
[8] انظر جورج بلاندييه، الأنثروبولوجيا السياسية’ ترجمة جورج صالح، ط1، (بيروت منشورات مركز الإنماء العربي، 1989).
[9] نفكر في حزب الدستور القديم في تونس،، قبل مؤتمر قصر هلال أواسط الثلاثينات، و نجم الشمال الإفريقي عام 1926 قبل أن يصبح حزب الشعب الجزائري سنة 1937.
[10] فعلى سبيل المثال تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، من لدن أنطون سعادة في 16 نوفنبر/ تشرين الثاني 1932، و حزب البعث العربي الاشتراكي في4-7 أبريل /نيسان 1947…
[11] – Voir entre autres :
Robert Rezette: les partis politiques Marocains، Cahiers de la FNSP، Armand Colin، Paris، 1955.
Jacques Robert: La monarchie marocaine; L.G.D.J، 1963، P 202 et s.
[12] اعتبرت “الزاوية” أعلى هيئة في التنظيم السري،، بدأت بعشرة أعضاء ثم انتقل عددها إلى عشرين، يشكلون قيادة الحزب و أطره العليا في الأحزاب العصرية، المكتب السياسي أو اللجنة التنفيذية، في حين ضمت الطائفة أربعة أعضاء، للتدقيق يراجع: عبد الكريم غلاب، تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب،، الرباط،، مطبعة الرسالة،، 1988.
[13] الرواية المتداولة في شأن الانشقاق داخل كتلة العمل الوطني، أن خلافا حول مواقع المسؤولية نشب بين علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني خلال اجتماع الكتلة في يناير 1937 لاختيار لجنة تنفيذية جديدة بواسطة الاقتراع السري، انظر علال الفاسي: الحركات الاستقلالية في المغرب العربي (الرباط، مطبعة الرسالة، ط 4، 1980).
[14] نقلا عن المهدي المومني التجكاني، دار بريشة قصة مختطف (الدار البيضاء، ط1، 1987) ص 30 (التشديد من الكاتب)
[15] نفكر في تونس وعلاقة الباي بالنضال الوطني، فمن باب المقارنة، على ضعف عناصرها، قاد حزب الدستور الحركة الوطنية التونسية منذ العقد الثالث من القرن العشرين، في الوقت الذي ظل تأثير مؤسسة الباي ضعيفا، الأمر الذي لا نرى له مثيلا له في المغرب الأقصى، حيث احتضنت الملكية عريضة الاستقلال (11 يناير 1944) وتبنت مقاصدها وتعرضت للنفي في شخص الملك بتاريخ 20 آب 1953. كما كان شرط المغاربة قبل الشروع في المفاوضات من أجل الاستقلال عودة الملكية إلى البلاد، خلافا لتونس التي أزيحت الملكية فيها صيف 1957 دون توتر أو صعوبة.
[16] كان يردد علال الفاسي باستمرار شعار “الاستقلال و الاستقلال قبل كل شيء”
[17] لم يفت علال الفاسي التنبيه إلى مواطن النقص لدى الحركة الوطنية حين شدد على ضعف النظرية عندها انظر مؤلفه، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، ط4، (الرباط: مطبعة الرسالة، 1980).
[18] انظر امحمد مالكي: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، ط 2، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1994).
[19] ألقيت المحاضرة في مدينة تطوان بتاريخ 31 يوليوز /تموز 1958، و الانشقاق حدث في 25 يناير /كانون الثاني 1959. انظر النص الكامل للمحاضرة في : محمد عابد الجابري : مواقف، إضاءات و شهادات” العدد 6 (الدار البيضاء : دار النشر المغربية، 2003) ص 71-96.
[20] نشير إلى اهتمامات محمد بلحسن الوزاني بموضوع الديمقراطية الحزبية في كتابات متفرقة. انظر مؤلفاته: حياة وجهاد (7 أجزاء)، وحرب القلم (6 أجزاء)، الصادرة على سنوات عن مؤسسة حسن الوزاني. وايضا المقالات الافتتاحية للأستاذ عبدالله إبراهيم في جريدة الاتحاد الوطني. انظر مؤلفه أوراق من ساحة النضال، ط1 (البيضاء: مطابع دار الكتاب، 1975).
[21] من ذلك مثلا أن “اللجنة المركزية تضم ضمن أعضائها رئيس و أعضاء مكتب الفريق النيابي”، فهم أعضاء بحكم الواقع و ليس الانتخاب وأيضا أعضاء مجلس الرئاسة” الذين و إن كانوا منتخبين من طرف المؤتمر العام بترشيح من الأمين العام فإن اختيارهم من قبل هذا الأخير يحول الانتخاب إلى مجرد تزكية لعضويتهم، إضافة إلى بعض أعضاء المجلس الوطني الذين لم يكتسوا عضويتهم فيه عبر الانتخاب بل باقتراح من الأمين العام و مصادقة المجلس الوطني، تقديرا لدورهم في النضال الوطني.
[22] يتركب المجلس الوطني وفق الفصل التاسع و الخمسين من القانون الأساسي لحزب الاستقلال من: “الأمين العام، وأعضاء مجلس الرئاسة و720 عضوا منتخبين” وقائمة من قدماء الوطنيين لا يتعدى عددها عشر الأعضاء المنتخبين ولائحة من الأعضاء الجدد لا يتجاوز عددها ثلاثين إذا ” فرضت ذلك مصلحة وطنية ملحة و بترشيح من اللجنة التنفيذية”
[23] أفرد الباب العاشر من القانون الداخلي (م122-134) للجنة الإدارية الوطنية، المتخبة وفقا للمادة السادسة عشرة من القانون الأساسي،من المؤتمر الوطني والمكونة من 189 عضوا أناطتها قوانين الحزب بعديد الوظائف كانتخاب المكتب السياسي (القيادة) من بين أعضائها، وتوجيه النشاط السياسي العام للحزب، والسهر على تنسيق النشاط ووحدة التوجيه في المعارك السياسية والاجتماعية على الصعيد الوطني، والمصادقة على الميزانية العامة، ومحاسبة المكتب السياسي
[24] الموسوعة السياسية… م.س. ص 275
[25] يسري الانتخاب على المؤسسات السفلى في الهرم الحزبي كالخلية والدائرة والفرع والمكتب الإقليمي، بينما يتراجع هذا السريان ليمتزج بالتعيين بالنسبة للهيئات العليا وانتقاء أطر الحزب، من قبيل “جهاز المفتشين” و”مجلس الرئاسة”، وقائمة الأعضاء السابقين من قدماء الوطنيين في المجلس الوطني.
[26] أخذ بهذا النظام أيضا حزب الحركة الشعبية حيث نص في الفصل الواحد والعشرين من قانونه الأساسي على ما يلي: “يعين الأمين العام المفتش العام، كما يعين المفتشين الإقليميين ونوابهم باقتراح من المفتش العام بعد المصادقة عليهم من طرف المكتب السياسي”.
[27] راجع الفصل السابع و الثلاثين من القانون الأساسي للحزب المصادق عليه في المؤتمر الثاني عشر (1986)، الذي يقابله الفصل الأربعون في القوانين المصادق عليها في المؤتمر الثالث عشر (1998)
[28] د.محمد شقير : الديمقراطية الحزبية في المغرب بين الزعامة السياسية و التكريس القانوني (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، ط1، 2003)،، ص 31
[29] من ذلك المساواة بين جميع الأعضاء في وضع سياسة الحزب ومناقشتها، وانتخاب الهيئات بشكل ديمقراطي، وخضوع الهيئات السفلى للهيئات العليا من حيث التراتبية، وتحديد المسؤولية الفردية و الجماعية للأعضاء على أساس مبدأ توزيع العمل، والامتثال الواعي لقواعد الالتزام الحزبي في جميع المسؤوليات. انظر، القانون الداخلي، منشورات الاتحاد الاشتراكي (الدار البيضاء: دار النشر المغربية، 1988) ص.2-3
[30] راجع، القانون الأساسي والنظام الداخلي، منشورات الاتحاد الاشتراكي (الدار البيضاء: دار النشر المغربية) (د.ت، ص 28-29).
[31] حدد حزب الاستقلال، على سبيل المثال، ولاية الأمين العام في سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة.
[32] خصوصا ما بين 1977 و1983.
[33] باستثناء مقاطعة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي و حزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي
[34] نص الدستور الأول (14 ديسمبر/ كانون الأول 1962) في فصله الثالث على وظيفة الحزب ومنع نظام الحزب الوحيد.
[35] من قبيل الاستمارات والاستبيانات، واستطلاعات الرأي حول مدى انتقال المعلومات داخل جسم الحزب والتواصل بين مختلف درجات مؤسساته. فعلى سبيل المثال لا الحصر صدر عدد يتيم من النشرة الداخلية منذ انعقاد المؤتمر الأخير للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (2001).
[36] عبد الله حمودي، الأبعاد الاجتماعية والثقافية للتنظيمات السياسية في المغرب، في : “التشكيلات السياسية في المغرب”، (مجلة نوافذ)، العدد 8-9،يوليو 2000، ص 68.
[37] نفكر في قضية طرد السيد خالد الجامعي من عضوية اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال استنادا إلى تبريرات خاصة باحترام مبادئ الحزب وكيانه. نشير في السياق نفسه إلى أن الفصل الثمانين من القانون الأساسي حدد المخالفة التي تنظر فيها اللجنة الوطنية للتحكيم والتأديب في: “مخالفة قوانين الحزب والإخلال بنظامه، الخروج عن برنامجه، المس بمبادئه، عصيان مقرراته، الإضرار بمصالحه”
[38] سمح الفصل السابع و السبعون من القانونا لأساسي لحزب الاستقلا ل بإمكانية استئناف أحكام اللجنة والطنية للتحكيم والتأديب أمام المجلس الوطني بواسطة “ملتمس” يوجهه المسـتأنف المعني إلى الأمين العام داخل أجل أقصاه 15 يوما من تاريخ توصله بمقرر اللجنة الوطنية للتحكيم والتأديب.
[39] محمد الساسي،، الأزمة الراهنة للديمقراطية الداخلية في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية،المظاهر ومقترحات للمعالجة، في “التشكيلات السياسية في المغرب” مجلة نوافذ، العدد 8 – 9،يوليو / تموز 2000،ص 36
[40] الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المؤتمر الوطني السادس، البيضاء 28 مارس –2 أبريل 2001 (الدار البيضاء: مطبعة دار النشر المغربية، 2001)، ص 29
[41] يتعلق الأمر أساسا بالقضايا التنظيمية التالية: سؤال الهوية، الإشكاليات والاختلالات التنظيمية، المبادئ والمفاهيم التنظيمية، الهيكلة التنظيمية،، أدوات العمل، إدارة الحزب وماليته وممتلكاته وإعلامه، ثم علاقات الاتحاد..وقد استغرقت ضمن وثائق الحزب خمسا وعشرين صفحة مكونة من عشرات الفقرات.
[42] نفكر في الجدل الدائر خلال انعقاد المؤتمر الثاني عشر (1989) بخصوص مطلب “تشبيب” قيادة الحزب على الصعيدين الإقليمي والوطني وتناول التقرير المذهبي لحيثياته، وردود أفعال بعض الأطر القيادية حيال هذا الموضوع. فقد اعترف امحمد الدويري، عضو اللجنة التنفيذية للحزب، بفشل المؤتمر في الإجابة عن مطلب التشبيب، كما قدم عبد الكريم غلاب، باعتباره عضوا في اللجنة نفسها، استقالته معلنا “أنه عضو في اللجنة التنفيذية للحزب منذ سنة 1948”..وذلك قبل أن يتراجع عنها لاحقا.
[43] لفهم دلالات التحولات الحاصلة في بنية المجتمع المغربي، انظر آلان روسيون في: “التحولات الاجتماعية بالمغرب”،، كتاب جماعي (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2000)،، ص 173
[44] يجب قياس الكلفة بالنسبة للأدوار المستقبلية للحزبين في الحياة السياسية، وحدود تقاربهما أو تفاعلهما، وطبيعة التنافس الذي سيسود علاقاتهما، وحجم مسؤوليتهما في استقامة الحياة الدستورية والسياسية المغربية. مع الإشارة إلى أن قرار الانشقاق لم يكن إجماعيا على صعيد النخبة، نحيل من باب المقارنة على محاضرتين متباينتين من حيث تعاطيهما مع فكرة تأسيس الحزب الجديد: الأولى للشهيد المهدي بنبركة، ألقيت في تطوان بتاريخ 31 يوليو/ تموز 1958، التي دعا فيها إلى إحداث انقلاب في الحزب والثانية للمرحوم عبد الرحيم بوعبيد التي ألقاها في الدار البيضاء بتاريخ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1958 فيموضوع “سنتان ونصف بعد استقلال المغرب”، التي أشار فيها إلى المحاولات الهادفة إلى تشتيت الحزب مشددا على القول بأن “قوتنا هي وحدتنا” وأننا نستطيع أن نحقق برنامجنا في الداخل والخارج وأن نبقى موحدين ولا سبيل إلى تردد الشك في صفوفنا” وإن كنا نستنتج من محاضرة سابقة للمهدي بن بركة ألقيت في الدار البيضاء في 19 مايو/ أيار 1957 ما يخالف ذلك حيث دعا إلى ممارسة النقد الذاتي داخل الحزب، والتوحد من أجل مواجهة ما يتعرض له الحزب.
[45] انظر على وجه الخصوص جريدتي “العلم” و”التحرير”. ومن السير الذاتية يمكن مراجعة:
[46] الذي سيصبح مع 1975 الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
[47] لعلها الجمل التي تصدرت لافتة المؤتمر التأسيسي (6 سبتمبر/ أيلول 1959): “أعداء التحرر والتقدم: التعصب الحزبي والاحتراف السياسي وعدم الشعور بالمسؤوليات”.
[48] سيما بعد نفي الملك محمد الخامس (20آب/ أغسطس 1953)، حيث طرح الوطنيون عودة الملك من المنفى شرطا للشروع في المفاوضات من أجل الاستقلال.
[49] انظر على وجه الخصوص كتابه: النقد الذاتي، ط1 (الرباط : مطبعة الرسالة 1952).
[50] قارن: عبد الكريم غلاب ـ التطور الدستوري و النيابي بالمغرب، ط1، (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 1988) ص 192.
[51] ورد ذلك في خطاب 8 مايو/ أيار 1958، الذي اصطلح على تسميته فيما بعد”العهد الملكي”. للاطلاع على النص الكامل، انظر “انبعاث أمة”، ج3 (الرباط: المطبعة الملكية،1957-1958)، ص 194 وما بعد.
[52] نفكر أساسا في الحزب الشيوعي المغربي، وحزب الشورى و الاستقلال.
[53] المصدر: الجريدة الرسمية، عدد 2616، بتاريخ 19 ديسمبر/ كانون الثاني 1962
[54] نشير إلى أن حزب الاستقلال طالب وقتئذ بالاقتراع اللائحي الأكثري على دورة واحدة. كما أن التعديلات التي أجريت على القانون التنظيمي الخاص بمجلس النواب عام 2002 جعلت المغرب يأخذ بالاقتراع اللائحي عن طريق التمثيل النسبي حسب قاعدة أكبر البقايا.
[55] انظر د.امحمد مالكي، الوجيز في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ط1 (مراكش: المطبعة الوطنية، 2001)، ص 261.
[56] يمثل كتاب الباحث المغربي محمد الطوزي محاولة جادة في الموضوع. انظر مؤلفه: الملكية والإسلام السياسي في المغرب، ترجمة محمد حاتمي وخالد شكراوي (الدر البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2000)، 310 ص. وهو صادر أصلا بالفرنسية:
Monarchie et Islam politique au Maroc، Presse de sciences politiques، 1999، Paris
[57] المقصود هنا الباحث الأمريكي “جون واتربوري” انظر مؤلفه:
Le commandeur des croyants، La monarchie marocaine et son élite، Paris، P.U.F. 1975
والصادر بالعربية: الملكية والنخبة السياسية في المغرب، ترجمة ماجد نعمة وعبود عطية (بيروت: دار الوحدة للطباعة والنشر، ط1، 1982).
[58] استرشادا بقولة “إرنست جلنر” الشهيرة: “أنا ضد إخوتي، و أنا ضد ابناء أعمامي، أبناء أعمامي، إخوتي وأنا ضد الجميع. لايجتمع الإخوة تحت سلطة عليا لأخ أكبر إلا خوفا من أبناء الأعمام، ولايجتمع أبناء الأعمام تحت سلطة بعض الفرق الكبرى للعائلة إلا خوفا من العدو الخارجي، الذي يهدد باستمرار. إن عامل الالتحام هو العدو الخارجي و ليست سلطة الحاكم الداخلي”. انظر:
Ernest GELLNER: Saints of Atlas، the nature of human society series، (London، weidenfeld،1969).
[59] اعتمدت الدولة استراتيجية إدراج العلماء ضمن أسلاك الوظيفة العمومية، واخترقت رابطتهم، وتمت مراقبة المساجد والتحكم في الخطب بداخلها
[60] حين طرح السؤال التالي على الملك الراحل الحسن الثاني: “لماذا طلبتم الموافقة المسبقة من العلماء على اعتلائكم العرش سنة 1961؟” كان جوابه: “بالنسبة لنا لا يتم طلب موافقة العلماء.. فعند وفاة الملك يقوم العلماء وبعدهم الشرفاء المنحدرون من النبي وأفراد العائلة والشخصيات بالتوقيع على وثيقة البيعة معترفين بذلك بوفاة الملك وباعتلاء خلفه العرش”. نشير إلى أن جدلا مهما حول البيعة و المبايعة وما يرتبط بهما شهدته الحياة السياسية المغربية لحظة التهيؤ لإعداد الدستور الأول (1962) الذي حسم فصله العشرون هذا النقاش بتنصيصه على الطريقة التي سينتقل بواسطتها العرش. مما يعني أن البيعة تغدو في هذه الحالة تأكيدا و تكريسا لما نصت عليه الوثيقة الدستورية.
[61] شددت الخطب الملكية في أكثر من مفام على أن فصل الساطات لا يسري على الملك بل على السلطتين التشريعية والحكومية. لذلك نميل إلى الفول أن نظرية الفصل بين السلطات تفهم في النظام السياسي المغربي في ضوء الأحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي أكثر من روح الشرائع لمونتيسكيو
[62] Voir entre autres، AGNOUCHE Abdellatif، Contribution à l’étude des tratégies de légitmation du pouvoir autour de l’institution Califienne، Thèse d’Etat، Université Hassan II، Casa، 1986.
[63] انظر د.امحمد مالكي: الوجيز في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية… م.س.، ص ص 263-283
[64] نفكر أساسا في التقرير الإيديولوجي المقدم لجلسات المؤتمر. للاطلاع على بعض مقاطعه و توضيحات عن سياق تحريره، انظر، محمد عابد الجابري، مواقف إضاءات و شهادات، عدد 9 (الدار البيضاء: دار النشر المغربية، ط1، نوفمبر/ تشرين الثاني 2002)، ص 21 وما بعد
[65] نفكر في كتابات عبد الله إبراهيم و معالجاته النظرية لقضايا الحكم و السلطة و كيفية تنظيمهما. للاطلاع على المضمون، تراجع مؤلفاته:
*صمود وسط الإعصار، محاولة لتفسير تاريخ المغرب الكبير (الدار البيضاء: دار النجاح الجديدة، ط1، 1976)
*أوراق من ساحة النضال (الدار البيضاء: مطابع دار الكتاب، ط1، 1975)
*الإسلام في آفاق ألفين (الدار البيضاء: دار النجاح الجديدة، ط1، 1979)
[66] ألم يحدد في سياق تشخيصه مصادر استمرار مشكلة التنظيم السياسي في المغرب قائلا”… ثم انهار نظام الاستعمار، واسترجع الشعب استقلاله رسميا و مضت السنون تلو السنين و جرس الخطر يدق باستمرار لأن المشكلة الخالدة مشكلة التنظيم السياسي للشعب المغربي على أساس سيادته ومسؤوليته وكرامته ما تزال قائمة و بشكل مفجع لحد الآن”، يراجع مؤلفه: صمود وسط الإعصار… م.س.، ص 96-97
[67] المصدر نفسه، ص 15-16
[68] محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب… م.س.، ص 159.
[69] قارن: عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة (بيروت، دار الحقيقة، ط3، 1979)، ص 51-52
[70] انظر بعض مؤلفاته :
* النقد الذاتي، ط1، القاهرة 1952
*منهج الاستقلالية، نص التقرير المذهبي الذي قدمه للمؤتمر السادس للحزب المنعدق في الدار البيضاء، يناير 1962، الرباط، مطبعة الرسالة، 1962.
*مقاصد الشريعة و مكارمها، الرباط، مطبعة الرسالة، 1963
*دفاع عن الشريعة، الرباط، مطبعة الرسالة، ط1، 1966.
[71] يقول عبد الله العروي في هذا الصدد: “…لهذا السبب بالذات إن استطاع (علال الفاسي) أن يعبئ الجماهير فإنه لم ينجح في ترجمة آرائه إلى واقع سياسي ملموس، حنى عندما كان يمارس سيطرة روحية مطلقة على الحزب كان يرى عناصر ليبرالية تتسلل إلى القيادة متوخية حصر نشاطه في مجال الدعاية و التنظير لتتكلف هي بمسائل التكتيك وبالمناورات اليومية مع الإدارة الاستعمارية…ولما دقت ساعة الاستقلال أخذت بزمام
الحزب و أبعدت علال الفاسي الذي اصبح في وضعية معارض مكمم..” انظر مؤلفه، الإيديولوجية العربية المعاصرة (الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1995) ص 67.
[72] المرجع نفسه، ص66
[73] علال الفاسي : النقد الذاتي (الرباط: مطبعة الرسالة، ط5، 1975) ص152
[74] المرجع نفسه،ص 152-153
[75] علال الفاسي : الحركات الاستقلالية في المغرب العربي (الرباط: مطبعة الرسالة، ط4، 1980) ص 199.
[76] علال الفاسي: النقد الذاتي… م.س.، ص 153
[77] بقي رقم هذا الفصل ثابتا في كل دساتير المغرب (1962،1970،1972،1992،1996) مع تعرضه لتعديل جوهري عام 1970 حين أضيفت كلمة “الممثل الأسمى للأمة”. أما نصه الكامل قيقضي ب:” الملك أمير المؤمنين و1لممثل الأسمى للأمة، ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي الملة والدين والساهر على احترما الدستور وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة”.
[78] نعتبر خطاب 14 أكتوبر 1983 بداية الشروع في تأويل الفصل التاسع عشر، فخلاله شدد الملك على مكانته كأمير للمؤمنين كما أكد على أن وظيفته تقتضي منه ضمان استمرارية الدولة وتسمح له بممارسة سلطات البرلمان. نشير على أنه تم اللجوء إلى الفصل نفسه للحسم في توتر العلاقة بين الملك والمعارضة الاتحادية التي لوحت بالانسحاب من البرلمان عام 1981.
[79] هناك اهتمام ملحوظ بالفصل التاسع عشر من طرف الفاعلين السياسيين خلال السنوات الأخيرة سيما من جانب تنظيمات اليسار وبعض أطر حزب العدالة و التنمية.
[80] Cf. LAHBABI (M): Le gouvernement marocain à l’aube du 20ème siècle، Rabat، Ed. Techniques Nord Africaines، 1958
[81] تكونت جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية من الأحزاب التالية: الأحرار المستقلون، الحركة الشعبية، حزب الدستور الديمقراطي لأحمد رضا كديرة قبل أن يتحول عام 1964 إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
[82] من ذلك قضايا: الإصلاح الزراعي، توحيد المحاكم ومغربة القضاء، تعريب الإدارة، وضعية الموظفين المدنيين، منع بيع الخمور وتوزيعها في الأماكن العمومية، تأميم معامل إنتاج السكر وتأميم المعادن، تعديل قانون الصحافة.
[83] تم ذلك في خطاب ملكي أذيع في 8 يوليو/ تموز 1970. للإشارة أصدر الحزبان بيانين منفصلين يوم 18 يوليو من نفس السنة ناهضا من خلالهما مشروع الدستور.
[84] للاطلاع على نص الميثاق انظر:

Claude Palazzoli :Le Maroc politique، Paris، Sindbad،1974،p.356
[85] بينما استبعد علال الفاسي أن تكون الكتلة عملا مؤقتا، اعتبرها عبد الرحيم بوعبيد “خطوة نحو إعادة توحيد جناحي حزب الاستقلال الذين انفصلا سنة 1959″، أما عبد الله إبراهيم فقد كتب عنها لاحقا يقول: “كان المخاض بالميثاق الوطني للكتلة عسيرا وطويل الأمد، فقد ابتدأ في خريف 1965 في سلسلة من اللقاءات بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، وانتهت هذه اللقاءات في 22 يوليوز 1970 بالتوقيع الرسمي على الميثاق الذي يعتبر لحد الآن مكسبا من أهم المكاسب للتحرك الوطني بعد الاستقلال..”انظر جريدة الاتحاد الوطني، عدد 101، 24 أكتوبر 1976.
[86] أرجع عبد الله إبراهيم، كأحد الموقعين على ميثاق الكتلة، أسباب تعثر المشروع إلى طبيعة المفاوضات المتأرجحة بين المد والجزر غير واضحة الأهداف، والخلافات في العلاقات الثنائية بين حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني، والأوضاع السياسية الدقيقة التي واجهها الاتحاد الوطني على المستوى الداخلي بين التيار الجذري و أنصار الحل الانتخابي.
[87] – من ذلك حزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي.
[88] – المقصود هنا انقلابي 1971و 1972، والقلاقل التي شهدتها بعض المدن المغربية عام 1973.
[89] – نفكر أساسا في اللقاء الذي جمع الملك الراحل الحسن الثاني مع المرحوم عبد الرحيم بوعبيد في يونيو 1974، والذي قال محمد عابد الجابري في حقه ما يلي: “يجب القول إذن أنه تمت في مقابلة يونيو 1974 الموافقة المبدئية من طرف الاتحاد الاشتراكي ممثلا في كاتبه الأول المرحوم عبد الرحيم بوعبيد على الدخول في تجربة سياسية، قوامها ما يعبر عنه اليوم بمصطلح “التناوب التوافقي”. انظر كتابه، مواقف، إضاءات وشهادات، العدد 9 (الدار البيضاء: دار النشر المغربية، ط2، 2002)، ص 29
[90] – Voir entre autres :
*LECA Jean، Réformes institutionnelles et légitimation du pouvoir au Maghreb، in : Développements politiques au Maghreb، aménagements institutionnels et processus électoraux، CRESM،CNRS، 1979.
*SAAF Abdellah، Maroc، l’espérance d’Etat moderne، Afrique-Orient، Casa، 1999
[91] نفكر اساسا في الإصلاحات الاقتصادية التي اقحمت المغرب في سياسة إعادة التقويم الهيكلي مع 1983، و ما ترتب عن ذلك من نتائج اجتماعية و سياسية.
[92] حددت وثائق الحزب اربعة مبررات للمشاركة، أولها النتائج المهمة التي حصل عليها في انتخابات نونبر 1976 الجماعية و يونيو 1977 التشريعية، التي أعطت للحزب المرتبة الأولى من حيث الأحزاب المشاركة، و الرتبة الثانية بعد قائمة الأحرار أو المستقلين، كما أنها جاءت تلبية للدعوة الملكية، في حين يتعلق المبرر الثالث بتضمين الوزير الأول في حكومة 10 أكتوبر 1977 للحد الأدنى من برنامج الحزب، و رابع هذه المبررات اقتناع الحزب بضرورة المشاركة في تعبئة الشباب و باقي مكونات المجتمع من أجل تجاوز حالة الجمود. للاستزادة انظر، حزب الاستقلال، المؤتمر العام العاشر (الرباط: مطبعة الرسالة، أكتوبر 1978).
[93] يشرح محمد عابد الجابري –كأحد المشاركين في صياغة التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي- طبيعة التوجه الجديد للحزب و أبعاده الاستراتيجية. فشعار ” الاختيار الديمقراطي” “لم يطرح في التقرير الإيديولوجي كشعار يكفي نفسه بنفسه بل لقد طرح في ترابط و تلازم شديدين مع شعارين آخرين هما “التحرير” و “الاشتراكية””. للاطلاع أكثر، انظر، محمد عابد الجابري، مواقف…م.س.، ص 21-30.
[94] اللهم إذا استثنينا تعيين عبد الرحيم بوعبيد وزير دولة في 2مارس /آذار 1977 إلى جانب الأمناء العامين لأحزاب الاستقلال (بوستة)، و الحركة الشعبية (أحرضان) و الحركة الشعبية الدستورية (الخطيب). و قد اعتبر بوعبيد مشاركته استمرارا لعضويته في المجلس الوطني لمراقبة الانتخابات، مع الإشارة إلى أنه سيستقيل في أعقاب الانتخابات التشريعية التي لم يتمكن خلالها من الفوز كمرشح في مدينة أكادير.
[95] من ذلك التصريح الملكي الصادر في 17 سبتمبر/ أيلول 1974، و بيانات الاتحاد الاشتراكي في الموضوع كما نشرتها صحافته.
[96] المقصود هنا “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” FDIC التي تزعمها وقتئذ أحمد رضا كديرة.
[97] نقصد الانشقاق الذي تعرض له التجمع الوطني للأحرار بعد ثلاث سنوات من تأسيسه، حيث نجم عنه تكوين “الحزب الوطني الديمقراطي”، في يوليو/ تموز 1981.
[98] من الخطاب الافتتاحي للأمين العام للحزب السيد المعطي بوعبيد خلال المؤتمر التأسيسي بتاريخ 9 أبريل/ نيسان 1983. مع الإشارة إلى أنه كان وزيرا أول منذ 1979.
[99] تردد كثيرا هذا الشعار في الوثائق الحزبية للاتحاد الاشتراكي و مقالات صحافته.
[100] نفكر في الأزمة الداخلية للاتحاد الاشتراكي عام 1978، التي أسفرت بداية الثمانينيات عن ميلاد حزب جديد حمل اسم “حزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي” (1983).
[101] توقف المؤتمر الحادي عشر لحزب الاستقلال (1982) عند مشاركة الحزب في العمل الحكومي وانتقد حصيلته العامة، كما طرح الأعضاء مشكلتي الديمقراطية الداخلية وتعاقب الأجيال على القيادة الحزبية (التشبيب). أما بالنسبة للاتحاد الاشتراكي، فإن تأسيس “الكونفديرالية الديمقراطية للشغل” (1978) وصعود التيار النقابي داخل الحزب سيكون له تأثير على التوازنات الداخلية والآفاق الاستراتيجية للعمل الحزبي.
[102] نشدد بالخصوص على التأويلات التي ستطرأ على الدستور، سيما الفصل التاسع عشر ابتداء من 1983.
[103] يتعلق الأمر باستفتاءين عامين في 4 سبتمبر / أيلول 1992 و13 سبتمبر/ ايلول 1996، واستفتاء جزئي حول تعديل الفصل التاسع والأربعين الخاص بقانون المالية ل 15 سبتمبر/ ايلول 1995.
[104] لم يفت الملك الراحل الحسن الثاني التأكيد على هذا الضياع والاعتراف به في سياق تقييمه لمرحلة 1956-1962، انظر: “ذاكرة ملك”، الشركة السعودية للأبحاث والنشر، ط 2، 1993، ص 24
[105] نشير على وجه الخصوص إلى ملتمس الرقابة (1990)، والمواقف المشتركة للحزبين من تزوير الانتخابات.
[106] تكونت الكتلة من خمسة أحزاب: الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انسحب منها بعد مدة. للاطلاع على موقفه من الانسحاب، انظر، عبد الله إبراهيم، ثورة تقدمية ذات طابع تاريخي تصطدم بقوة رجعية مضادة 1944- 1995، ط2 (الدار البيضاء: النجاح الجديدة، 1995)، ص 65 -69.
[107] للاطلاع على نماذج من هذه القراءات، انظر:
*المصدق رقية: متاهات التناوب، ط1، (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 1996).
*أحمد الحليمي علمي: المسار الديمقراطي في المغرب، رهانات التوافق ( المحمدية: مطبعة فضالة، ط1، 2000).
[108] يتعلق الأمر بمذكرة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي (9 أكتوبر/ تشرين الأول1991)، والكتلة الديمقراطية (19 يونيو/ حزيران1992، و23 ابريل/ نيسان 1996). علما أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية انسحب من عضوية الكتلة قبل تقديم المذكرة الأخيرة.
[109] قدمت أحزاب الكتلة، باستثناء الاتحاد الوطني والتقدم و الاشتراكية، مذكرة إلى الملك في فاتح نوفمبر 1993 حددت من خلالها العناصر الضرورية للمشاركة في الحكومة أهمها التأكيد على إرساء مؤسسات ديمقراطية واحترام نزاهة الانتخابات وتشكيل حكومة مسؤولة وقوية ومنسجمة ومتضامنة في حين كان الجواب الملكي بعد يومين (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1993) متفهما لهذه المطالب، غير أنه اشترط المحافظة على أربع حقائب وزارية هي التالي: الوزارة الأولى، الخارجية، الداخلية، العدل.مع الالتزام بضمان استقرار وزاري للحكومة الجديدة لمدة ثلاث سنوات. لم تتجاوب الأحزاب الثلاثة إيجابيا مع هذا العرض فأصدرت خلال ذكرى عريضة الاستقلال (1 يناير/ كانون الثاني 1994) وثيقة أسمتها “بيان من أجل اليمقراطية” أعادت تأكيد تصوراتها لموضوع المشاركة، وفي 14 أكتوبر/ تشرين الأول من السنة نفسها تمت معاودة العرض الملكي، غير أن أحزاب الكتلة طالبت بشروط جديدة مما دفع العاهل المغربي بعد تعثر اللقاء الذي جمع مستشاره أحمد رضا كديرة بالأحزاب الثلاثة في 5 يناير/ كانون الثاني 1995، إلى العدول عن فكرة التناوب.
[110] ورد العرض الملكي الأول في خطاب افتتاح الدورة الخريفية لمجلس النواب يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1993، وتجدد الثاني في 14 أكتوبر /تشرين الأول 1994.
[111] شهد المغرب منذ استقلاله سبع عمليات استفتاء دستورية عامة وجزئية سنوات: 1962، 1970، 1972، 1980، 1992، 1995، 1996
[112] تصدر الاتحاد الاشتراكي قائمة انتخاب أعضاء مجلس النواب ب 57 عضوا من أصل 325، في حين حصل حزب الاستقلال على 32.أما في مجلس المستشارين ففاز حزب الاستقلال ب21 مقعدا نظير 16 للاتحاد الاشتراكي. انظر التفاصيل في “جريدة الصحراء المغربية عدد 3223، 16 نونبر /تشرين الثاني 1997، و عدد 3244، 7 دجنبر /كانون الأول 1997”

اقرأ أيضا

الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة

العلاقات التركية-الروسية: ثِقَل التاريخ ومحددات الجغرافيا العارفون بتاريخ العلاقات التركية-الروسية سيقرأون حادثة إسقاط الطائرة الروسية …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *