كما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاطب العاهل المغربي الملك محمد السادس المنتدى العالمي لحقوق الإنسان بلهجة لا تخلو من التنبيه إلى الهفوات التي تسود العلاقات بين دول الجنوب والمراكز المتنفذة في العالم.
في المرة الأولى قال إن الاستعمار خلّف نكبات طاولت البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، خاصة في أفريقيا، ثم جاء يفرض عليها مقولات ونظريات في كيفية تدبير شؤونها وبناء استقلالها الذي تعرض لتشوهات شملت الحدود ومنابع المياه والموارد ونزعات التقسيم. وهذه المرة أكد أن الاتفاقات الأولية ذات الصلة باحترام حقوق الإنسان أبرمت فيما الدول الإفريقية غائبة عن الساحة الدولية، نتيجة وقوع غالبيتها تحت نير الاستعمار. ومع ذلك، فإنه لا يجب أن تظل موضع سجالات في المسألة الحقوقية، كونها بلغت درجة من النضج تؤهلها لاحتلال مواقع في الصفوف الأمامية، وبالتالي فإن إسماع الصوت الإفريقي لا يتوقف عند نقل أنواع المآسي والمعضلات والحروب الطائفية والكوارث الطبيعية وتفشي الأمراض وغياب الاستقرار، بل من الضروري أن تحتل مكانة لائقة في تحسين سجلها في احترام حقوق الإنسان.
الشاهد في هذه المقاربة أن نظرة الاستعلاء والاستغلال حيال ما يتفاعل في القارة الإفريقية يتعين أن توضع في الخلف. والشعوب التي دخلت عصر الربيع الإفريقي في مواجهة الاستبداد والتطرف والإرهاب، في إمكانها تصحيح هذه النظرة، فالديموقراطية ليست سلعة تقتنى من رفوف المتاجر وفق قاعدة العرض والطلب، بل هي ضرورية للانخراط في مسار التحولات الراهنة. وإذا كان الاقتصاد العالمي يتجه الى الاعتماد على الموارد التي تزخر بها القارة السمراء، فإن مناخها المتسم بالحرارة، يمكن أن يصبح عاملاً مؤثراً في جذب الاستثمارات ونقل الهجرة التي دأبت على التدفق جنوباً في اتجاه الشمال إلى موجة معاكسة، في ظل المتغيرات المناخية التي أصبحت تقلق مهندسي الجيولوجيا وأحوال الطقس وتقاليد العيش في بيئة سليمة.
الأكيد أن الصراعات التي كانت ذات نبرة أيديولوجية خلال الحرب الباردة، تحولت إلى مجال اقتصاد السوق وتأثير العولمة وتفاعل الثقافات والحضارات، وهي في طريقها إلى مستوى آخر من الصراع الذي تلعب فيه المتغيرات المناخية دوراً بارزاً، بالنظر إلى تعاقب احتمالات غزو الصقيع الجليدي في بلدان الشمال. غير أن هذا المعطى الذي سيكون له أثر بالغ في توجيه دفة الأحداث والصراعات ومعاودة البحث عن مناطق النفوذ الدافئة، لا يعفي الدول الإفريقية من أن تكون سباقة لاستيعاب القيم الكونية في الديموقراطية وحقوق الإنسان.
تعرضت معادلات التوازن إلى اختلالات جوهرية. فما كاد العالم يطمئن إلى توازن الرعب النووي، حتى اندفعت بلدان نحو البحث عن أذرع واقية يمكن أن تتعدى الحدود وتشكل تهديداً للجيران، كما في أزمة المفاوضات بين إيران والدول الغربية. وفي سياق متصل، شكل انهيار المنظومة الاقتصادية والمالية السائدة في العالم الغربي إنذاراً لجهة الإقرار بالإفلاس الذي قاد في نهاية المطاف إلى أزمات هيكلية عميقة في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا. وبدا التطلع إلى بلدان الجنوب بمثابة مخرج، كونها الامتداد الحيوي لأوروبا نحو القارة الإفريقية، أو بلدان أميركا الجنوبية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وكندا، أو آسيا بالنسبة إلى أستراليا.
وإذ ينشغل السياسيون وخبراء الاقتصاد بالنزاعات الإقليمية والحروب الناشئة، نتيجة نفاد مخزون السلم في العالم، يبدي علماء المستقبل من ذوي الاختصاص في ميدان الطاقة وارتدادات غضب الطبيعة، مقداراً أكبر من الاهتمام بالاكتشافات الجديدة التي تعتبر أفريقيا في مقدم مجاهلها.
يطرح العاهل المغربي أمام المنتدى العالمي لحقوق الإنسان الذي استضافته مراكش مقاربة واقعية إزاء الربط بين تكريس احترام المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، والتزام الدول الأفريقية منهجية ديموقراطية، من دون إغفال تداعيات الهجرة غير الشرعية والحروب العرقية والطائفية وتنامي الإرهاب والعنف واللاتسامح. غير أن هذه المنظومة في شموليتها لا تطاول الحقوق السياسية وآليات حظر التمييز وترسيخ قيم المساواة والتعايش، ولكنها ترتكز على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمفهوم الحقوق والواجبات. وهنا تحديداً تكمن مسؤوليات التضامن الدولي الذي لا يكاد ينتفض إلا عند الشعور بوجود مخاطر صحية، كما في حال تفشي فيروس «إيبولا». وبالمقدار الذي يجري فيه اعتماد المقاربات الحقوقية آلياتٍ لاحتساب التقدم، يغيب التضامن الفعال الذي سيفرض نفسه بفعل الأحداث السياسية، فالطبيعة وحدها في إمكانها تغيير معادلات التوازنات السائدة.
*كاتب صحفي/”الحياة” اللندنية