يمكن القول إنّ الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، موضوعٌ الآن تحت المجهر للتنقيب عن ماضيه، وتحديداً الماضي الفكري والبحثي. وعدا عن الإشارات العابرة هنا وهناك، من قبل سياسيين إسرائيليين منهم بنيامين نتنياهو، حول موقف عباس من المحرقة النازية (كما فعل نتنياهو في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي، في خطابه في الأمم المتحدة)، فإن هناك باحثين أكاديميين وإعلاميين، وربما مخابرات، تنقب في السجّلات والأوراق.
ومن الواضح أن من دوافع هذا التنقيب عدم العثور في حاضر عبّاس على ما يمكّنهم من إدانته (بالشكل الذي يريدونه هم). والإدانة المطلوبة هي تجريده من أهليته للشراكة في السلام، بهدف تبرير رفض أي تسوية، وإلهاء العالم بقضايا جانبية، وتبرير الجرائم الإسرائيلية والحصول على الغُفران بشأنها، باستحضار المحارق النازية.
في تقرير مطول نشرته صحيفة “يديعوت أحرنوت” أمس، يتضح مثلا أن الدكتور في جامعة بار إيلان، إيدي كوهين، أمضى الأشهر الستة الماضية في التنقيب فيما كتبه وقاله عبّاس قديماً وحديثاً. ويتضح من التقرير أنّ سجلات المخابرات الإسرائيلية “الموساد” فُتِحَت، وسئل رجالها القدُامى. إذ يقول أحدهم إنّه “كانت لديهم تقارير استخباراتية حينها (مطلع الثمانينيات)، أنّ عبّاس طلب من عدة باحثين في أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية الكبير، عندما كان يعمل في بيروت، ويموَّل بسخاء من دول عربية، جمع مجموعة كبيرة من المواد حول “الهولوكوست” (والصلة بين الصهيونية والنازية).
وأنّهم كانوا يتابعون عملية الترجمة المكثفة التي تجرى لدراسات وكتابات بالألمانية عن تعاون نازي صهيوني، إضافة لمواد مترجمة من العبرية. وبحسب الصحيفة، كانت هذه الكتابات “جزءا من بروباغاندا (دعاية) وظفت خلال تلك السنوات، لتثبت وجود علاقة بين أعداء الاتحاد السوفيتي الأساسيين- الغرب والنازية”. وتنقل الصحيفة عن رجال مخابرات أنّهم كانوا يتوقعون صدور هذه المواد في كتب تنشرها “المنظمة”، ثم وجدوا بعد سنوات أنّها لمساعدة عبّاس في إنجاز أطروحته للدكتوراه في الاتحاد السوفيتي.
استفاد المنقّبون عن “تراث” عبّاس كثيراً من نشر موقع الرئيس على الإنترنت، مؤخراً، ثمانية عشر كتاباً ألّفها عبّاس، وأعيد طبعها حديثاً في رام الله، منها أطروحة الدكتوراه (كما يقول الإسرائيليون)، التي نشرت أصلا العام 1984 في عمّان، بعنوان “الوجه الآخر: العلاقات السرية بين النازية والصهيونية”، وطبعت مجددا العام 2011.
وبالتالي، أصبح بإمكان من يتهمون عبّاس بإنكار المحرقة النازية المحاججة بأنّ إعادة النشر، ورقيّا وإلكترونيّاً، هي نوع من تجديد المقولات، وأنّه ليس صحيحاً أنّ الحديث فقط عن أطروحة عمرها أكثر من ثلاثين عاما، ولا يمكن التشبث بها لبناء موقف سياسي استناداً لها.
تتمثل الأهداف الإسرائيلية من هذا التنقيب، في محاولة تنظيم حملة مضادة للاستياء العالمي من الممارسات الإسرائيلية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني؛ بدءا من الاستيطان، مرورا بتقييد الحركة ومنع اللاجئين والنازحين من العودة إلى بيوتهم، وهدم البيوت ومنع بنائها، وصولا إلى القتل الذي يمارسه الجنود والمستوطنون.
وكذلك محاولة التشكيك في صدق عبّاس وإدانته لعمليات قام بها فلسطينيون ضد إسرائيليين. كما تخدم الحملات في تبرير الدعوات للاعتراف العالمي ب(إسرائيل) دولةً يهودية، وتسهم في الجدل التاريخي في الصراع العربي-الإسرائيلي، وإعادة استخدام وتوظيف المحرقة النازية -التي حدثت في أوروبا ضد أوروبيين- مجددا في هذا الصراع، وإعادة الحديث عن المعاناة اليهودية في أوروبا وكذلك في الدول العربية. كما أنّ هناك أهدافا جانبية تتحقق، من نوع الإيهام بأنّ المخابرات الإسرائيلية بالغة القوة، وكانت تتابع كل شيء حتى رسالة دكتوراه.
رغم أنّ “صوابيّة” إعادة النشر تحتاج وقفة، فإنّه لا شيء يلغي أنّ هذه أطروحة قديمة، وأنّ رجل السياسة يحاسب على مواقفه السياسية لا على سجله الجامعي. واللافت أيضاً أنّ الاستخلاص الإسرائيلي الأساسي في موضوع الأطروحة لا يتعلق بإنكار المحرقة، بقدر ما يتعلق بقول عباس إنّ الصهيونية وَظّفت المذبحة لتبرير بناء وطن قومي يهودي في فلسطين وتشجيع الهجرة، من دون أن تهتم حقاً بوقف المذبحة أوروبيّاً.
هذا التدقيق في جزء منه ربما كان عملا يقوم به صهاينة وإسرائيليون لأسباب شخصية أكاديمية وخاصة، لكنه يُوظَّف سياسياً لصنع قضية من لا شيء.
* رئيس برنامج الدراسات العربية والفلسطينية في جامعة بير زيت