تصاعدت حرارة السجال السياسي بين المرشحين للدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية التونسية، السيدين الباجي قايد السبسي (مرشح حزب «نداء تونس» الذي حصل على نسبة 39.46 في المئة في الدورة الأولى) ومحمد المنصف المرزوقي (مرشح حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي حصل على نسبة 33.43 في المئة في الدورة نفسها) بإطلاق تصريحات نارية ضد الخصم وتحريض الناخبين ضده.
خاض السبسي حملته الانتخابية تحت شعارات «التقدم والحداثة وإعادة الهيبة للدولة»، وهي مفاهيم بورقيبية بامتياز. وقد دافع مؤيدوه عن هذا الخيار باعتبار البورقيبية عامل جذب. في حين رأى فيها منتقدوه علامة مقلقة على عودة النظام القديم، بخاصة أن حزب «نداء تونس» جذب أعضاء من الحزب الحاكم السابق، وأشاروا إلى قيامه على أساس «زعامي»، حيث لم يُقم السبسي هيئات ديموقراطية داخل الحزب تبعث على الثقة والاطمئنان إلى السياسات التي سينتهجها.
بدأ السبسي حملته للدورة الثانية بالهجوم على خصمه وشيطنته، فأعلن «أن المرزوقي هو مرشح الإسلاميين والسلفيين الجهاديين… من صوتوا للمرزوقي هم الإسلاميون الذين رتبوا ليكونوا معه، يعني إطارات حزب حركة النهضة (…) والسلفيين الجهاديين (…) ورابطات حماية الثورة وكلها جهات عنيفة». ورأى أن «تونس ستنقسم خلال الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية إلى شقين اثنين: الإسلاميين من ناحية وكل الديموقراطيين وغير الإسلاميين من ناحية أخرى»، في محاولة واضحة لتخويف الناخبين ودول الجوار من المرزوقي باعتباره واجهة لحكم إسلامي مستتر.
أما المرزوقي فاعتمد على تاريخه النضالي في مواجهة النظام السابق في مرحلتي بورقيبة وبن علي، حيث نشط في مجال حقوق الإنسان، قبل أن يشكل حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» عام 2001، عبر قيادته الرابطة التونسية لحقوق الإنسان. غير أن أداءه في الرئاسة خلال المرحلة الانتقالية لم يكن في مستوى المرحلة. فقد اختلط عليه الأمر ولم ينجح في التمييز بين سلوك الناشط الحقوقي ورجل الدولة، ناهيك عن انعكاس سلبيات المرحلة الانتقالية عليه وعلى حزبه، حيث جاءت نتائجه في الانتخابات البرلمانية جد متواضعة (حصل على 4 مقاعد).
استفاد المرزوقي من الصورة النمطية التي التصقت بالسبسي باعتباره من رجالات العهد السابق، ومن نقاط ضعف حزب «نداء تونس»، وهو حزب جديد غير مُختبر ويفتقر إلى بنية تنظيمية ديموقراطية، ومن تحفظ أحزاب وقوى مدنية عن سيطرة حزب «نداء تونس» على السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد أن احتل المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية بحصوله على 86 مقعداً، وكونه سيُكلف تشكيل الحكومة التونسية بالضرورة، ناهيك عن مخاوف من توجهات السبسي الخارجية، حيث من المتوقع أن ينخرط في تحالفات عربية ودولية لا تنظر إلى الخيار الديموقراطي بإيجابية. لذا، أطلق نداءه للقوى الديموقراطية التونسية وأبرز المشترك بينهما عبر الإشارة إلى الخلفية الديموقراطية التي عُرف بها. فقد قال: «أتوجه الآن إلى كل القوى الديموقراطية التي ناضلت معي وناضلت معها طيلة الثلاثين سنة الماضية، من أجل دولة ديموقراطية حقيقية، من أجل القطع مع الماضي، (و) أصبحت الآن مرشحها الطبيعي»، ما يعني أن السبسي مرشح الثورة المضادة. وقد عاب عليه صمته على القمع أيام بورقيبة وبن علي، ورفض اعتبار أن الصراع يدور بين إسلاميين وعلمانيين، وقال: «إنه بين ديموقراطيين وأعداء الديموقراطية».
هذا وكانت الدورة الأولى عكست اصطفافاً شعبياً على خلفية طبقية، حيث صوتت أكثريات الولايات/ المحافظات الفقيرة والمهمشة في الجنوب والوسط الغربي للمرزوقي، بينما صوتت أكثريات الولايات «الغنية» والتي حكمت تونس منذ الاستقلال (بورقيبة من المنستير وبن علي من حمام سوسة) للسبسي الساحلي (وهو من سيدي بوسعيد، البلدة الساحلية ومن ضواحي تونس العاصمة).
وهذا ما طرح على المتنافسين مهمة كبيرة وهي اختراق هذا الاصطفاف والتحول إلى شخص جامع عابر للولايات وللمصالح الطبقية، والتعاطي بجدية مع هواجس المواطنين ومخاوفهم حيال هذا الانقسام العمودي وحيال تبني سياسات تمييزية، ومن ثم طمأنتهم إلى المستقبل وأن يكون الفائز رئيساً لكل التونسيين وأن يحرص على الوحدة الوطنية باعتماد سياسة وطنية جامعة بعيداً من الجهويات والانقسامات الفئوية.
ليس سراً أن ثمة حركة محلية وإقليمية نشطة لتعظيم حظوظ السبسي الانتخابية في ضوء توجه لطي صفحة الربيع العربي ومفاعيله، في حين تسعى قوى سياسية ومدنية واجتماعية تونسية، مع بعض الدعم الإقليمي، إلى تثبيت المكاسب التي أفرزها هذا الربيع وعدم إهدار التضحيات التي قدمها المواطنون التونسيون من أجل الحرية والكرامة.
واقع الحال أن مصلحة القوى السياسية والمدنية التي ناضلت طويلاً ضد النظام البورقيبي، مع المرزوقي. لكن سيادة ثقافة خلفيتها الحقد في هذه الأوساط تجعل الجزم بالخيار الذي ستتخذه صعباً. فاليسار الشيوعي الذي يمثله حزب العمال الشيوعي التونسي (ألباني الهوى حيث تبنى التنظيرات الشيوعية لأنور خوجا) والناصريون وبعض منظمات المجتمع المدني اليسارية الهوى، لن تتقبل التقاطع مع الحركات الإسلامية على مرشح واحد، وهي تجد في ذلك خيانة لتراثها ولمعاركها القديمة.
* كاتب سوري/”الحياة” اللندنية