عندما تكون هذه الأسطر أمام قارئيها، يكون الشعب التونسي يستعد للقيام بدوره الصعب الشائك، وهو اختيار رئيس جمهورية من بين إثنين. أيا كان هذا الرئيس، وأيا كانت خصائصه وقدراته، فبإعلان اسمه تكون تونس قد خطت خطوة -ليست سهلة ولا هّينة- فتقف بذلك على عتبة مسيرة طويلة عسيرة، مليئة بالصعاب والأتعاب، سيكون فيها، للرئيس الجديد المنتخب، لأوّل مرة، انتخابا حرا ولو أعوزته بعض النزاهة والاستقلالية والروح الرياضية، المتمتّعِ بثقة أغلبية المواطنين التونسيين، دور هام ومسؤوليّة ثقيلة، رغم ما بتره الدّستور من مهام تمتّع بها من ترأس قبله، ورغم ما حدّده من مسؤوليات الرّئاسة في العهد المقبل.
إنّ الرّئيس بالثوب الجديد، سيكون ذا سلطة وعديم الحُكم. لكنّه، سيكون حَكَما، والحكم خاصته حياد ومرونة. أحبّ هذا الرّئيس أو أبى، فلا ثالث له من اثنين: الفرديّة في العمل واتخاذ القرار داخل إطار صلاحياته، أو المشاركة والتعاون، أي العمل الجماعي، وهذا أفضل للوطن الذي يفرض، والحال ما هي عليه، توافر الجهود، بتنسيق ومنهجية قصيرة المدى، متوسطته وطويلته. فإن كانت هناك حقّا نية خالصة للعمل الصّالح الشامل، فالمعوّل بعد الله على ثالوث، إن فُقد، أو أَخَلّ أحد ضلوعه بمأموريته، فُقد النجاح وتعطلت المسيرة، أو حادت عن وجهتها، أو، لا قدر الله، خرجت عن السبيل السوي. هذا الثالوث، أو أضلاع المثلث الوطني هي: الرّئاسة والحكومة والمواطنون.
هنا لابدّ من وقفة عند المواطنة ومفهومها، لأنها أهملت سابقا، حسّا ومعنى، وهُمِّش المواطن ولم يُعتبر كما يجب أن يكون الاعتبار، حتّى أصبح بيدقا من بيادق لعبة كثيرا ما كان هو ضحيّتها.
لا أحد إلى اليوم، واجه المواطنة كعامل من عوامل الثقافة الاجتماعية، فدُرست وشُرِحت فلُقِّنت، حتّى يعلم كلّ ذي واجب واجبه، وكلّ ذي حقّ حقّه. لأنّ المواطنة، هي مجموع من الواجبات والحقوق، يرتبط بها المواطن، أي الفرد، في علاقاته بالمجتمع الذي يعيش فيه. هذا المفهوم من المواطنة مرتبط بالقانون والحق، خاصّة في ما يتعلّق بالحقوق السياسية، التي بدونها لا يستطيع المرء التدخّل والمشاركة في شؤون الدّولة، والسّماح له بالمساهمة المباشرة، أو غير المباشرة، في الحكومة والإدارة، من خلال التصويت المباشر لينتخب غيره، أو لينافس هو ذاته، لاستلام وظائف عموميّة بطريقة مباشرة. لذا فالمواطنة تشمل واجبات وحقوقا. سبقت الواجبات على الحقوق، وهذا أفضل، لأنّ الواجبات تتولّد عنها الحقوق أو قل الحقوق هي ثمرة الواجبات. حقوق وواجبات يفرض على المرء إتيانها والتّمتّع بها، علما منه بأنها مسؤولية ضروريّة لتعايش المرء داخل مجتمعه.
تفرض المواطنة على الفرد تنفيذ واجباته والقيام بها، كفرد ذي حركة ونشاط بإمكانه القيام بمهمّات لمصلحته لأنّ فيها مصلحة المجتمع بأسره، وتنميته وتطويره، بما أنّ المشاكل المدنيّة وشؤون البلاد يجب أن تكون مسؤولية جماعيّة، مسؤولية كلّ المواطنين.
هذه المفاهيم قد يراها البعض بديهيّة معروفة. لكن من رأى الأمر بهذا المنظار، معناه أنه نسي أو أغفل الثقافة التي، طوال نصف قرن، تسرّبت جذورها إلى أعماق مجتمعاتنا، فقضت على معظم المفاهيم البديهية والمعقولة، “فأشعّت” بمساوئها التي لا تعدّ ولا تحصى، الظاهر منها ما اشتكته الجماهير فانتفضت للقضاء عليه، والباطن لا يزال يسكن النفوس، بما فيها نفوس المتقدمين في حلبة الصّراع السياسي والاجتماعي، فتصعب رؤيتها أو الشعور بوجودها لأنّها أصبحت جزءا من طبيعة المواطن. فما استقرّ في أعماق مجتمعاتنا من الاتكال على الدولة، وانتظارها إطعامنا، ومنحنا كلّ ما نحتاجه، دون مشاركة ولا اجتهاد، ومن المعوّل على المحسوبية، أو استعمال الرّشوة وقبولها، ومن فقدان أو قتل روح المبادرة، غرسته في النفوس ثقافة محكمة التدبير طوال نصف قرن، وما كان قبل النّصف قرن فهو هبة مضافة.
لهذا، وخدمة للوطن وصلاحه، وجب تغيير ما بالنفس، واتباع نسق جديد في العمل عماده ائتلاف الجهود وتعدّد السّواعد، بعد تشابك وتلاقح الآراء. فالرّئيس مع الحكومة والشعب، كلّ واضحة بيّنة مسؤوليّاته ومجال إنجازاته، يعمل تخطيطا وتنسيقا وإنجازا، على إنجاح كلّ مشروع.
إنّ العمل ضمن فريق، كعضو في فريق، لا كسيده أو مسيره، ثقافة لها قواعدها وأساليبها، قد يصعب اعتناقها في البداية. لكن إذا تابعنا ما جنته وما تجنيه الشعوب التي لا تؤمن إلا بعمل الفريق، وشاهدنا نجاحها وتقدّمها، وأردنا فعلا مصلحة بلادنا، فلابدّ لنا من الاقتناع بمحاسن تلك الطريقة وفوائدها، ثمّ اقتباسها، اقتباس عمل الفريق، جميعنا بلا استثناء، والمثل الأوّل يعطيه أو سيعطيه الرّئيس المنتخب، ورئيس الحكومة المختار، لأنّ المثل الشعبي الليبي يقول: أين تميل الزّمالة -العمامة- تميل العمالة، وبعبارة أخرى “الناس على دين ملوكهم”.
إن أمل التونسيين، وأمل كل العرب، هو أن يدين ملوكهم، أي قادتهم، بالديمقراطية النقية الصّرفة، وأن يتركوا ما علق بهم وبنا من سيئ الثقافات والسلوك، وأن نبعث أو نتّبع ثقافة جديدة تتماشى والعهد الجديد، الذي نريد وُلوجَه بقدم ثابتة، ثقافة نستوحيها كي تنير بأضوائها مشاكلنا الشائكة، التي تتطلب حلولا تتفق والظروف الزمنية التي نحن فيها. آن لنا، كما قال المفكّر المحجوب بن ميلاد، “أن نواجه ونجابه المشاكل كلّها، دون استثناء وجها لوجه”، “في صراحة الصّدق وجمال الحقيقة “- كما قال الشابي، لأن من يطلب الحياة حسب قوله-” فليعبد غده الذي في قلب الحياة. أمّا من يعبد أمسه وينسى غده، فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور السّاخرة.
يكثر الحديث عن أنّ تونس ستكون أمثولة لغيرها في أسلوب وكيفية بناء عهد جديد. لسنا ممّن ينفي ذلك لإيماننا أنّ الشعوب والأمم صنفان: منها الحيّ ومنها الميّت. منها “ما يسنّ في الحياة شرعا، ويشقّ طريقا، ومنها الحقير كالظلّ يتبع ولا يُتبع”. فإن أرادت تونس، أن تكون تونس فعلا مثالا يحتذى، وجب أن نعدّ مجتمعنا لذلك، وهذا لا يكون إلا إذا كان القادة معلمين لا حكاما حتى يكون مجتمعنا شاعرا بنفسه، واعيا لحقائقه، مدركا لشؤونه الجوهريّة، لا كما اعتادت تصويرها وتزويقها والمبالغة فيها دعايات لسلطات مفروضة، تغريرا وتضليلا للحفاظ على المناصب والمكاسب.
*كاتب تونسي ودبلوماسي سابق/”العرب”