أعلنت، قبل أيام، الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس النتائج المؤقتة، في انتظار آجال الطعن فيها قبل إقرارها النهائي. وبانتهاء الانتخابات، تطوي تونس مرحلة حاسمة من الانتقال الديمقراطي، وتخرج من طور المؤسسات المؤقتة إلى طور مستقر، يفترض أن يمتد على أكثر من خمس سنوات، كما يقر ذلك الدستور والقانون الانتخابي أيضاً. وعلى الرغم من القراءات المختلفة للنتائج، فإن الانتخابات، بشهادة الملاحظين والمراقبين التونسيين والأجانب، تمت وفق معايير النزاهة والشفافية، فحتى الخروق التي تم تسجيلها، وكانت في جلها تنظيمية، لم تؤثر، بحسب تقاريرهم، على ما باحت به صناديق الاقتراع من نتائج. علينا تذكر أن ذلك لم يكن ممكنا لولا ثلاثة عوامل جوهرية: قانون انتخابي جديد فيه تنصيص على الجرائم الانتخابية الموجبة للعقاب الصارم، إدارة انتخابية مستقلة عن السلطة التنفيذية انتخب المجلس التأسيسي أعضاءها ممن ترشحوا، ورقابة فعالة للمجتمع المدني، تشكلت من منظمات وجمعيات امتدت على كامل المسار الانتخابي.
أثارت النتائج، وما زالت، تثير ردود أفعال مختلفة داخل الطبقة السياسية، وحتى الشارع العريض. لكنها طرحت، أيضاً، على الملاحظين والمختصين أسئلةً كثيرة، كمسألة فوز حزب نداء تونس، وهو الحزب الذي لم يعقد بعد مؤتمره التأسيسي، ما يجعل فرضية تناسله من حزب التجمع المنحل قائمة، وقد نشأ، كما تدل تسميته في شكل تنادٍ لإحداث شكل من التوازي السياسي، بعد الفوز الساحق لحركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، في انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، غير أن ما يعنينا، هنا، معرفة أسباب النتائج الهزيلة التي حازها المستقلون في مجلس نواب الشعب، فلم يتجاوز عدد القوائم الفائزة في شخص رؤسائها اثنين.
تنافست في الانتخابات نحو 1330 قائمة بين حزبية وائتلافية، ضمت أحزاباً تتقاسم الأرضية الإيديولوجية والسياسية، لعل من أهمها الجبهة الشعبية التي جمعت أحزاباً يسارية وقومية، وشخصيات ليبيرالية غير متحزبة، من دون أن ننسى القوائم المستقلة التي ناهزت 350 قائمة، أي بنسبة 30%، هذا إذا ما استحضرنا أن عدد القوائم الحزبية كان في حدود 730 قائمة، غطت جميع الطيف الحزبي والسياسي التونسي المعترف به قانونياً، علماً أن عددا من الأحزاب الحاصلة على التأشيرة القانونية لم تشارك، في السباق الانتخابي، لعجزها عن تشكيل قوائم، تغطي كل الدوائر، أو حتى بعضها، وبلغ عددها 33 دائرة، بما فيها الدوائر المخصصة للمواطنين التونسيين المقيمين في الخارج. لم تتقدم هذه الأحزاب للانتخابات، نظراً لحالة الوهن التي تعرفها على غرار ضعف عدد المنخرطين، وغياب المقرات، ناهيك عن معضلة التمويل، في مناخ تثار فيه شبهات عديدة حول مصادر تمويل عدة أحزاب.
يبدو أن القانون الانتخابي الذي تبنى نظام القوائم مع اعتماد التمثيل النسبي، والأخذ بأكبر البقايا، وإن أفلح في منع اكتساح حزب واحد مقاعد المجلس التأسيسي التي عددها 217، ما يضاعف احتمالات فتح الباب على مصراعيه لهيمنة نظام شمولي جديد، عانت منه البلاد طوال أكثر من نصف قرن، فإنه لم يمنح المترشحين المستقلين ما يكفي من امتيازات، أو أسبقية على غرار أنظمة انتخابية أخرى.
الآن، وقد تم التصريح بالنتائج، فإنه تم، نظرياً على الأقل، تجنيب البلاد مخاطر اكتساح حزب واحد، يفوز بالأغلبية مقاعد مجلس نواب الشعب، ومع ذلك، فإن أحدا لا ينكر حالة الاستقطاب الثنائي الحاد التي خلفتها تلك النتائج. يتقابل مخيمان كبيران: حزب نداء تونس وحركة النهضة، وتنتصب على الهامش أطياف أخرى ضعيفة، لا يمكن أن يكون لها وزن نيابي فعال، كالجبهة الشعبية وحزب آفاق، على الرغم من شراسة الأقليات النيابية، في مثل حالات الانتقال الديمقراطي الذي تمر به تونس. واللافت أن هذا المشهد لا يشير مطلقاً إلى وجود مستقلين، فالمقاعد التي فازوا بها لا تتجاوز ثلاثة مقاعد تقريباً، ما يحرمهم من لعب دور سياسي مهم.
خلفت هذه النتيجة الهزيلة عدة نقاط استفهام، تمتد من اتهام القانون الانتخابي نفسه الذي يشجع القوائم، وأهمها القوائم الحزبية، على حساب الترشحات الفردية التي قد تكون أكثر ملاءمة، واستجابة لفلسفة ومنطق الاستقلالية، لتصل إلى ضمور مكنة المستقل في الثقافة السياسية التي تشكّل قناعات قسم كبير من الرأي العام الحالي.
ففي سياق تنافسي حاد، كالذي عرفته تونس، لا يمكن للمستقلين افتكاك حظوظ متساوية مع غيرهم من القوائم الحزبية، خصوصاً وقد جربت عدة شخصيات مستقلة، منذ انتخابات 2011 حظها، ومنيت بخيبة انتخابية، نتيجة ما حصلت عليه من أصوات، فشخصيات مستقلة عديدة، مثل الجامعي المرموق، الصادق بلعيد، المختص في القانون الدستوري والإعلامي، صلاح الدين الجورشي، وحتى القيادي في حركة النهضة، عبد الفتاح مورو الذي ترشح في انتخابات 2011 مستقلاً، لم تجد حظها وانقادت إلى هزيمة انتخابية مرة، على الرغم مما لهؤلاء من كفاءات وصيت وإشعاع.
ربما قد تكون الثقافة السياسية للتونسيين، وهم يعبرون مراحل الانتقال الديمقراطي، ما زالت لم تتخلص من ثقل تراث الزعامات الفردية التي احتضنتها الأحزاب أساسا، فالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وغيرهما من الشخصيات السياسية الوطنية التي حكمت وعارضت، ما كان لها أن تحوز ذلك النفوذ والصيت، لولا الأحزاب التي احتضنتها. ويتداول التونسيون، في هذه الأيام، وبشكل مكثف، لفظاً مستمداً من عالم الميكانيكا، وهو لفظ “الماكينة”، لوصف القدرات اللوجستية والتنظيمية والمالية والعلائقية الظاهرة والخفية التي تمتلكها الأحزاب، لتشغلها من أجل إدراك أهداف مرسومة، وفق مخطط دقيق، وعادة ما يكون ذلك في سياقات من التنافس الحاد.
يفتقد المستقلون، مهما علا شأنهم ومكانتهم الاجتماعية، مثل تلك الماكينة، وهي تلك الآلة الضخمة التي توفر الموارد البشرية والرمزية القائمة عل الشبكات المختلفة، ذات القدرة الهائلة على التحرك والمباغتة والتأثير في سياقات مشعبة. وافتقاد ذلك جعل التعبئة الانتخابية للمترشحين المستقلين شبه منعدمة، إذ عجز جل المستقلين عن تنظيم اجتماعاتهم الانتخابية، وهو الحد الأدنى المطلوب في مثل هذه المواعيد، ينفض الأنصار والمتطوعون من حولهم، لأن الرهان حولهم يكاد يكون معدوماً.
كما أن الانتخابات الحالية، وفي ظل حالة الاستقطاب الحاد التي شهدتها تونس في الأشهر الماضية، تظل محكومة باستراتيجيات كبرى، على غرار المشروع المجتمعي والسرديات الكبرى، بتعبير الفيلسوف الفرنسي ليوتار، ولن تكون الشخصيات المستقلة قادرةً على الذهاب بعيداً، في هذا الاتجاه. فمثل تلك المسائل تحتاج، كما ذكرنا، إلى مثل تلك الآلات التي لا تقدر سوى أحزاب قليلة على امتلاكها، فضلاً على تحريكها، في محيط محلي ضيق.
على الرغم من هذا المناخ، تظل حالات استثنائية دالة، منها حالة قائمة “رد الاعتبار” التي ترأسها النقابي ذو الصيت الشهير، عدنان الحاجي، وهو أبرز من قاد انتفاضة الحوض المنجمي لسنة 2008، والذي حرّرته الثورة من السجن، وظل من أبرز الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، في أثناء حكومات ما بعد الثورة، مدافعاً شرساً عن حق مدينة قفصة، وحوضها المنجمي بشكل عام، في التنمية، بما ينسجم مع الثروات الطبيعية التي تنتجها الجهة، وعلى الرغم مما يوجهه إليه خصومه من مآخذ، كالشطط في المطلبية، إلى حد التعجيز والفوضوية والكيل بمكيالين، ومنسوب الانتماء الجهوي، الفائض أحياناً، فإنه استطاع أن يرد على هؤلاء، ويفوز بمقعد الجهة، أمام أشرس المنافسين، “نداء تونس” وحركة النهضة، وحتى الجبهة الشعبية التي يقاسمها جل أطروحاتها السياسية والاجتماعية.
في الحالة المتبقية، تظل الديناميكية المحلية، ورصيد المترشح من الوجاهة المحلية هي المحدد، فقائمة مجد الجريد التي يترأسها رجل الأعمال، عبر الرزاق شريط، ابن الجهة الذي عرف باستثماره الاقتصادي والثقافي، في جهته حصرياً، على غرار الفنادق البديلة ومتاحف الواحات وذاكرة الحضارة.. إلخ، وتم إتلاف بعضها إبان الثورة، قد مكّنت الأخير من الثأر من مناوئيه المحليين. لا شك ان ذلك كان نتيجة جهد مضنٍ، تشكلت له شبكات صغيرة، أعضاؤها عموماً من العائلة الموسعة والأصدقاء والجيران وزملاء الدراسة والزبائن، فيما يشبه رد الجميل لابنٍ ظلمه بعضهم من أهله، حسب اعتقادهم. لن يسلم المستقلون في الانتخابات الرئاسية المرتقبة، وقد يدفعون الثمن باهظاً أمام ماكينات شرسة.
* سياسي تونسي ووزير سابق/ “العربي الجديد”