حصل ما توقعناه، قرر مجلس شورى حركة النهضة في تونس عدم الإعلان عن دعم مرشح محدد للانتخابات الرئاسية، وهو قرار خيّب آمال الذين راهنوا على انحياز الحركة لهم. ويمكن وصفه بأنه اختيار ذكي، ولا يخلو من الحكمة، راعت الحركة فيه مصلحتها السياسية: كان بإمكانها أن تدعم مرشحاً، لكنها ستخسر البقية، خصوصاً القريبين منها. تجنبت الحركة أن تقف وراء مرشح قد يخفق في الوصول إلى قصر قرطاج، فتُمنى بخسارة ثانية بعد الانتخابات التشريعية. والقرار لم يقطع مع الباجي قايد السبسي، وترك شعرة معاوية معه لمرحلة ستكون دقيقة. وحرية الاختيار للقواعد لا تعني أن أصوات الموالين للحركة ستمنح لأيٍّ كان. وقد يكون منصف المرزوقي في مقدمة المستفيدين، خصوصاً وأن استطلاعات الرأي، أخيراً، كشفت عن صعود أسهمه، ووضعته في المرتبة الثالثة، بعد السبسي ورجل الأعمال المثير للجدل، سليم الرياحي. كما أن المرزوقي، وإن اتسعت رقعة الرافضين له في أوساط النخب، يحظى بدعم جزء من الرأي العام.
تتابع “النهضة” باهتمام ضغوط أوساط اليسار على السبسي، حتى لا يفتح المجال لاحتمال تشكيل الحكومة بالتنسيق مع الحركة، وهي تعتبر حصول هذا الاحتمال يشكل “كارثة على حزب نداء تونس وعلى مستقبل المسار الديمقراطي”. وعلى الرغم من المبالغة في هذا الشأن لاعتبارات أيديولوجية وسياسية، إلا أن بناء حكومة ائتلافية مع “النهضة” يمثل تحدياً صعباً للنداء الذي بنى حملته الانتخابية ضد الحركة، ووعد التونسيين بأنه الأقدر على إدارة شؤون الدولة بعيداً عنها. وكان ذلك من أهم العوامل التي دفعت جزءاً واسعا من الناخبين للتصويت لمثل ذلك الاختيار. لكن، مع الأخذ بالاعتبار هذا العامل، إلا أنه غير كاف لاستبعاد التقارب بين حزبي النداء والنهضة، واعتباره كارثيا. فأصحاب هذا القول يريدون أن يحرموا ما حللته السياسة، ولو أدى ذلك إلى نتائج قد تضر بمصلحة البلاد، أو تعرض الانتقال الديمقراطي للمخاطر.
ليس تشريك حركة النهضة في الحكومة المقبلة احتمالا مستحيلا، والسياسي المؤثر في الأحداث، وصانعها، لا يلعن المستقبل، أو يضع نفسه في حلقة مغلقة. وتونس، اليوم، في حاجة ملحة لاستقرار سياسي واجتماعي، لتتمكن من استكمال بناء مؤسساتها بطريقة تعمق الممارسة الديمقراطية، وتحمي النظام السياسي الجديد. لهذا، الصيغة الأفضل التي من شأنها أن تبعد البلاد عن الهزات القوية هي التي تكون أقرب إلى التوافق وتقاسم المسؤوليات بين الجميع، أو، على الأقل، بين القوى الرئيسية السياسية والاجتماعية الرئيسية. ويمكن أن يتحقق ذلك بطريقتين:
الأولى: التوصل إلى حكومة ائتلافية، تكون حركة النهضة جزءاً منها، بقطع النظر عن الوزارات التي يمكن أن تحصل عليها. فالمهم، في هذه الحالة، إدماجها في مؤسسات الدولة بطريقة شفافة، لا تشعرها بالإقصاء والعدوانية، وبذلك يتم إبعادها عن مجال ردود الأفعال، والسعي المستمر إلى إرباك الحكومة المقبلة، وابتزازها.
الصيغة الثانية لتحقيق الاستقرار أن يتم استثناء حركة النهضة من الحكومة المقبلة، لاعتبارات موضوعية، من دون أن يصاحب ذلك خطاب عدائي، يكون الهدف منه العودة إلى الحرب الباردة التي هيمنت، طوال السنوات الأربع الأخيرة، بين الإسلاميين وجزء من أوساط العلمانيين، على أن يتزامن ذلك مع وعي والتزام من حركة النهضة بأن تمارس، في المرحلة المقبلة ما يمكن تسميتها المعارضة المسؤولة. أي أن تمتنع عن تغليب مصالحها الحزبية على المصالح العليا للبلاد.
ليس المهم أن تكون حركة النهضة في الحكومة المقبلة، أو خارجها، الأهم أن يرتقي جميع الأطراف بمستوى خطابها وممارستها، وأن يضمن رئيس حزب نداء تونس حماية الحريات، حتى تستعيد البلاد الحد الأدنى من استقرارها وعافيتها، وتنجح في استكمال مهمة التأسيس والبناء.
* كاتب من تونس/”العربي الجديد”