هل الهويّة الإسلامية بَديلٌ للهويّة العربية؟

يعيش العرب الآن في ظلّ هوياتٍ غير واضحة وغير محسومة، وأيضاً مع انعدام وجود لمشروع عربي حضاري محدّد. وهاهم الآن يختلفون حتّى على الهوية الوطنية نفسها، وعلى ما فيها من تعدّدية داخل المجتمع الواحد. ولم تستطع الطروحات العربية الفكرية السائدة الآن أن تضع أمام الأجيال العربية الجديدة رؤيا فكرية سليمة تمكّن هذه الأجيال من أن تعمل على ضوئها لبناء مستقبل عربي أفضل.
لكن تبرز الآن على سطح الأحداث مسألة “الهويّة الدينية” وكأنها أصبحت بديلاً للهويات الوطنية والقومية. فهل يمكن اعتبار “الهويّة الإسلامية” بديلاً للهويّة العربية؟
هذا التساؤل ليس بموضوع جديد على منصّة الأفكار العربية. هو موضوعٌ لا يقلّ عمره عن مائة سنة، فمنذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهية هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي إلى دول وكيانات بعد انتهاء الحقبة العثمانية. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري. فالعروبة والإسلام في المنطقة العربية حالة متلازمة مترابطة ومختلفة عن كل علاقة ما بين الدين كإسلام والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (الإسلام) ولتأخذ بالعلمانية وبالمنحى الأوروبي.. كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب المتمسّكين بدينهم الإسلامي يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية يعني التخلّي أيضاً عن دينهم قياساً على التجربة التركية، بينما هناك في الواقع خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي خصوصية محصورة بالعرب ولا تشترك فيها معهم أيّة قومية أخرى في العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم. فحينما يتمّ فصل العروبة الثقافية عن الإسلام الحضاري، فكأنّ ذلك هو فصل لغة القرآن الكريم عن القرآن الكريم نفسه، وكأنّه فصل للأرض العربية التي عليها المقدّسات الإسلامية عن الدين الإسلامي. هذه الخصوصية في العلاقة تجعل من إضعاف العروبة إضعافاً للإسلام، والعكس صحيحٌ أيضاً.
لقد كانت حالة الجزائر، حينما كانت تحت الاحتلال الفرنسي، خير مثال على ذلك، فقد حاولت فرنسا أن تضع بديلين في الجزائر: بديلاً حضارياً، وهو الحضارة الغربية بدلاً من الحضارة الإسلامية؛ وبديلاً ثقافياً حينما حاولت “فَرْنسة” الجزائر وفرض اللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية. فكيف حافظت الجزائر على عروبتها وعلى إسلامها؟ لقد فعلت ذلك من خلال التمسّك بالقرآن الكريم. فمن خلال التمسّك بالإسلام نفسه، تمسّكت الجزائر بعروبتها. وقد عاش المشرق العربي في مطلع القرن العشرين حالة معاكسة لتجربة الجزائر مع الفرنسيين حيث رفضت بلاد الشام محاولات “التتريك” التي كانت تحصل، فتمسّكت بعروبتها حيث ساهم ذلك بالحفاظ على لغة القرآن الكريم ووعائه الثقافي العربي.
ورغم خصوصية العلاقة بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري، فإنّ هذا الموضوع الشائك لم يٌحسم خلال القرن العشرين، ورغم أنّه ما زال أيضاً هو الأساس لنهضة هذه المنطقة في القرن الجديد، حتى لو كانت هناك ممارسات كثيرة، وما تزال، باسم العروبة وباسم الإسلام، تسيء إلى العروبة نفسها أو للإسلام نفسه.
فقد كان من الخطأ مثلاً، طرح القومية العربية خلال القرن العشرين وكأنها أيديولوجية عقائدية، بينما يُفترض أن تكون القومية العربية إطاراً للهوية الثقافية، بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية. إذ يمكن أن تكون قومياً عربياً علمانياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً ليبرالياً.. أي نستطيع وضع أي محتوى “أيديولوجي” داخل هذا الإطار القومي. فالقومية هي هويّة، هي إطار تضع فيه محتوًى معيناً وليست هي المحتوى. فالمشكلة التي حدثت، خاصّةً في النصف الأول من القرن العشرين، تكمن في أنّ معظم من طرحوا فكرة القومية العربية قد طرحوها بمضمونٍ إمَا علماني ليبرالي (غربي)، أو علماني ماركسي (شيوعي)، وفي الحالتين كان هذا الطرح متناقضاً مع الإسلام بشكل أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو الابتعاد عن الدين، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافي يشترك فيه العرب ككلّ، مهما كانت اختلافاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية أو عقائدهم الدينية.
لقد كان الخيار القومي العربي – وما يزال- يعني القناعة بأنّ العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً، تتكامل فيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحد الأمَّة العربية حفاظاً على مصالحهم في المنطقة وعلى مستقبل استنزافهم لخيراتها ومواردها وطاقاتها المادية والبشرية.
وإذا كان من المفهوم أن يحارب غير العرب (على المستويين الإقليمي والدولي) فكرة القومية العربية، فما هي المصلحة العربية في إطلاق السهام على هذه الفكرة من بعض العرب أنفسهم، أو من بعض من ينتمون لأقليات إثنية وفدت للمنطقة العربية بفعل جرائم حصلت ضدّها من أممٍ أخرى (كما حصل تاريخياً مع الأكراد والأرمن)، فاحتضنت المنطقة العربية هذه الأقليات اللاجئة اليها، وكان ذلك شهادة للعروبة كما كانت شهادة للعرب المسلمين وجود ملايين من أتباع الطوائف الدينية المسيحية واليهودية لقرون عديدة، قبل عصر “التتريك” والاستعمار الغربي والوجود الصهيوني وجماعات التطرّف الديني التي نشهدها الآن.
ربما تكون المشكلة هي في كيفيّة فهم “الهويّة العربية”، حيث يراها البعض وكأنّها “هويّة” عنصرية تقوم على العرق والدم، كما هي معظم “الهويّات” القومية في العالم، بينما المثال الصحيح على طبيعة “الهوية العربية” هو “الهويّة الأميركية” التي تحتضن في ظلّها أصولاً قومية وثقافية ودينية متعدّدة، ورغم ذلك يفتخر الأميركيون ب”هويّتهم” المشتركة التي صنعها مزيج وحدة التاريخ والأرض واللغة والمصالح، وفي إطار كيانٍ اتحادي دستوري يُعبّر عن “الأمّة الأميركية”. فأين العرب والعروبة من كلّ ذلك؟ ولماذا يتمّ التخلّي عن “الهوية العربية” ل”أمّة عربية” تملك كل عناصر التكامل ومقوّمات التوحّد فيما بينها لتكون هي أيضاً قوة دولية كبرى اسمها “الولايات العربية المتحدة”، بدلاً من حال الانقسام وتجزئة المجزّأ الذي يعيشه العرب لقرنٍ من الزمن؟!.
إنّ “الشخص العربي” هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتى في دائرة العالم الإسلامي. فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتحاد بين بلدانها.
إنّ “الهويّة الثقافية العربية” كانت موجودةً كلغة وثقافة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محدّدة .. بينما العروبة – كهوية انتماء حضاري ثقافي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب .. هكذا أصبحت “العروبة الحضارية” هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع، الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها ل”العربي”، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية والإثنية. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من حيث اعتبار الطوائف الدينية المسيحية العربية نفسها كجزء مساهم بالحضارة الإسلامية، ومن حيث تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق.
فهل يصحّ، بعد كلّ ما سبق ذكره، الحديث عن “هويّة دينية” بديلاً للهويّة العربية؟! ولصالح من، ووصولاً إلى ماذا؟!
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن

اقرأ أيضا

خبير فرنسي: المغرب يحظى بإعجاب كبير من النخب الفرنسية المهتمة بمستقبل إفريقيا

أكد مدير وكالة (أفريكا بريس باريس)، ألفريد مينيو دي كامباني، أنه "لا يوجد بلد في إفريقيا اليوم يحظى بنفس الإعجاب الذي يحظى به المغرب من النخب الفرنسية المستنيرة والمهتمة بمستقبل القارة الإفريقية".

خبير فرنسي: سياسة الملك في إفريقيا تؤتي ثمارها على مستوى القارة

أكد الخبير الفرنسي في العلاقات الأورو إفريقية، غيوم شابان ديلماس، أن السياسة الإفريقية للملك محمد السادس، بدأت تؤتي بالفعل ثمارها على مستوى القارة من حيث التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

بوريطة

بوريطة في حوار مع “لوبوان”: زيارة ماكرون للمغرب دشنت فصلا جديدا في العلاقات الثنائية

أكد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، في حوار مع مجلة "لوبوان"، نشر أمس السبت، أن زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، دشنت فصلا جديدا في العلاقات الثنائية بين البلدين.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *