تؤكد كل المؤشرات أن ليبيا تغرق في فوضى، وتتدحرج إلى منحدر الحرب الأهلية، أو على شفى تخومها. سيصفق كثيرون شماتة فيمن سوّلت له نفسه مجرد التعاطف مع ثورات العرب. أما العقلانيون فسيستعملون ذلك حجةً على صواب نظرية “سلطانٌ غشوم خير من فتنة تدوم”، وبعضهم سيعد مخالبه وأنيابه شهوةً للعق الدماء السائلة. لا يهمه طعم ذلك، ولا الجهة المراق دمها. المهم أن تفشل ليبيا في اجتياز مرحلة انتقال ديموقراطي فاجأها، وفاجأ نخبها خصوصاً. وليبيا من الدول العربية التي تشكلت نخبها، بمختلف حساسياتها الإسلامية والليبرالية والعروبية، منذ خمسينات القرن الماضي، الحقبة التي تشكلت فيها ملامح النخب التي حكمت، أو عارضت، في فترة الدولة الوطنية في العالم العربي. ولا يكمن التشوه الذي أصاب ذلك البناء في ثقافة النخب ذاتها، ولا في أدائها فحسب، إنما في تجربة بناء الدولة التي كانت كارثيةً ومسخرة بكل معاني الكلمة. لم تبن دولة حقيقية في ليبيا بالمعنيين، السياسي والسوسيولوجي، لأنها قامت على إلغاء عقلانية المؤسسات في مدلولها الفيبري الأدنى، فضلاً عن أساليب المشاركة العقلانية، وارتبط ذلك كله بمزاج القائد المتقلب الذي حكمته النزوات.
لفهم حالة الدولة الليبية، نحتاج إلى تذكيرٍ بسيط بأدبيات المؤرخ والمفكر المغربي، عبد الله العروي، وهو ضرورة التفريق بين الدولة بالمعنيين السياسي والدولي، والدولة بالمعنيين الاجتماعي والسياسي. كانت لليبيا دولة بالمعنى الأول، دولة علم وحدود وحكومة تحظى باعتراف دولي منحها الشرعية، ولكن، كان لها ما يشبه الدولة أو نسخة هجينة مشوهة منها على المستوى السوسيولوجي، أو السياسي، ولم تحز على المشروعية الأخلاقية، والقبول بها، إطاراً للانتماء المشترك. جزء كبير مما يحدث حالياً كان ثأراً مؤجلاً لا غير من عنف التعسف والإكراه الذي رافق مرحلة الدولة. قد ينتهي العنف، ولكن، ستظل هذه المسائل عالقة، وعلى النخب الليبية أن تستعد لطورٍ صعب من استئناف بناء الدولة الوطنية.
لا يمكن لعاقلٍ أن يتجاهل ما يحدث في ليبيا، ومن يكرر “عدم التدخل” في الشأن الليبي هم أكثر الناس تدخلاً فيه. تلك مجرد حذلقات ديبلوماسية، هي نثر كلامٍ لا يقبل عليه أحد. ومع ذلك، يقال احتراماً للأعراف. الشظايا المتناثرة على التراب الوطني في المناطق الحدودية والأسلحة التي تهرب، والبشر المتسلل على كامل المناطق الحدودية، ترغمنا على الانتباه جيداً، وذلك شأن الجزائر. علينا ألا ننسى أننا أمام واجبٍ أخلاقي تجاه أشقائنا الليبيين، “أغويناهم” بالثورة وحبّبناها إلى قلوبهم، فثورتهم توأم ثورتنا. لكن، بقدر ما نما التوأم الأول، واشتد عوده أو يكاد، لمناعةٍ تاريخيةٍ مكتسبة، تعود إلى ما ذكرنا من طبيعة النخب والمجتمع المدني وأنماط البناء الوطني، فإن التوأم الثاني غدا، بعد سقوط النظام الليبي، معتلاً مصاباً بأسوأ ما تتنكب به المجتمعات المستقرة، فما بالك بمجتمعاتٍ تنجز تحولاتها الديموقراطية أعقاب ثورة مسلحة: الإرهاب والتشرذم السياسي والتناحر والنزاعات المناطقية على أرضٍ مبللة بالدم والبترول. يتصارع الناس على الكفاف، كما في الحالتين، الصومالية والأفغانية، وتكون منهم ضراوة قاتلة، ولكن، يكون الصراع متوحشاً ومجنوناً، حين يكون النفط في الحسبان.
في الصراع الدائر حالياً في ليبيا، لن تكون الغلبة لأي طرف، لأنه معقد ومتشابك، ومن يصنفه بين خصمين، مثل إرهابيين ومدنيين، مخطئ، ف “المدني” تسلح بما يفوق المجموعات المتشددة والإرهابية، ويحظى بدعم أطراف إقليمية ودولية، تغدق عليه المال والسلاح بشكل مريب. وهناك من يختزل الصراع، أيضاً، بين المؤتمر الوطني والمجلس النيابي، وهذا اختزال، وثمة اختزالات مضللة أخرى، فيما الأبعاد الحقيقية للصراع معقدة ومركبة.
علينا، ونحن أشقاء لليبيين، أن نضيّق الخيارات عليهم، فلا نجعل لهم إلا خياراً أوحد، هو الحوار والتوافق. فالرصاص عنوان الفشل لنا جميعاً. وتجربة البزة العسكرية قد يلجأ إليها الليبيون المدفوعون إلى البحث عن الأمن، ولو كان الثمن كرباج العسكري وبطشه، لكن، ذلك حل مؤقت، لا يمكن أن يبني مستقبل الليبيين. شرط الحل ذاك عدم مناصرة طرفٍ على آخر، وسحب الشرعيات والمشروعيات من كل الفرقاء، ومن أي طرفٍ يدّعي أنه السلطة الحقيقية والشرعية والوحيدة الممثلة للبرلمان.
للأسف، الإعلام التونسي، بلعبة المال والسياسة، يميل مع الرياح، أينما راحت، وهي رياح صرصر على الليبيين والتونسيين معاً. عشنا، في الأسابيع الأخيرة، أشياء يندى لها الجبين، وليس الحديث، هنا، عن تبييض الإرهاب المنسوب إلى الإسلام، بل، أيضاً، عن تبييض الإرهاب المدني باعتبار أن ما يرتكبه “المدني” لا يقل فظاعة عما ترتكبه المجموعات الدينية الإرهابية. أما من يتحدث عن مواجهاتٍ، تضع الجيش الليبي في مقابل “الإسلاميين” بهكذا تعميم، فإنها مُلحة نستظرفها، خصوصاً حين يتزامن إطلاقها مع احتفالات بعضنا بذكرى الفاتح من سبتمبر، فحتى العقيد القذافي لم يكن يتحدث عن الجيش الليبي، بل عن الشعب المسلح، منذ الثمانينات، لأسبابٍ يطول شرحها.
مبادرة تونسية جزائرية موحدة، من شأنها أن تجمع الليبيين، وتعزل الذئاب والضباع التي تشتهي أن تنهش جثث الليبيين المتناثرة. الكل ينتظر ما ستأتي به الانتخابات التونسية في الأسابيع المقبلة، حتى يعدل من تفاصيل مبادرةٍ، بدأت ملامحها تتضح. للجزائر مفاتيح ولتونس مفاتيح أخرى، وتظل البقية معلقة في رقاب الليبيين أنفسهم. لا يعني هذا استسلام قوى إقليمية مناوئة للثورات العربية، لكنها ستجد نفسها مكشوفةَ بغطاءٍ ليبي هذه المرة.
“العربي الجديد”
اقرأ أيضا
بالفيديو.. حسناء مومني تروي مغامرتها في فيلم 404.01: “من بين الصعوبات لي لقيت هو مكنقدرش نشوف الدم”
تحدثت الممثلة المغربية حسناء مومني، في تصريح لموقع “مشاهد 24″، عن تجربتها في فيلمها السينمائي …
لسان أسترالي يعلق في ثلج
في حادثة طريفة أثارت ضحك المارة، وأصبحت حديث وسائل التواصل الاجتماعي «ريديت»، علق لسان أسترالي، …
محمد الخلفي في ذمة الله
توفي الفنان القدير محمد الخلفي، اليوم السبت، عن عمر يناهز 87 عاما، وذلك بعد صراع …