الواضح أن دعوة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، التي تضمنتها كلمته التي ألقتها نيابة عنه هدى فرعون وزيرة البريد وتكنولوجيا الاتصال هذا الأسبوع بمحافظة الطارف المحاذية للحدود الجزائرية التونسية، والتي ناشد فيها الشعب الجزائري التحلي باليقظة لحماية الوحدة الوطنية والتصدي للأمواج المخربة إشارة منه إلى تداعيات الربيع العربي، مؤسسة على لغة التلميح وليس على لغة التصريح، وهنا نتساءل: لماذا لم ينطق الرئيس بوتفليقة جهرا بأسماء الدول غير العربية التي يتهمها بأنها قامت بتدبير الربيع العربي ؟ ولماذا لم يتخذ النظام الجزائري، منذ بدء عاصفة الربيع العربي، موقفا مضادا للدول غير العربية التي يحاجج بأنها تقف وراء تدبير سيناريو هذا الربيع الذي ينعته بوتفليقة بالأمواج المخربة وأن الهدف من ورائه زرع الفتنة وتفكيك دولنا؟
ثم لماذا يحمَل الرئيس الجزائري مسؤولية نشوب الانتفاضات الشعبية في عدد من بلداننا، للدول الأجنبية، علما وأن هذه الانتفاضات لم تكن فردية لكي يتم تسويغ اتهامها بأنها لا تعبر عن نسبة كبيرة من الضمير الجمعي لمجتمعاتنا، ولكي توصف بأنها صادرة عن مشاغبين وعملاء غير وطنيين، أو عن نخب لها ارتباطات بأجندة خارجية، بل إن الواقع الذي لا يمكن نكرانه يؤكد، أن هذه الانتفاضات قد شارك فيها الملايين من المواطنين وكانت شعاراتها مرفوعة ضد الأنظمة الدكتاتورية، وضد الغبن الاجتماعي والإقصاء الإثني. هل نفهم من كلام الرئيس الجزائري أن ما حدث في تونس مثلا، ليس إلا جزءا من السيناريو الذي دبرته دول غير عربية لم يوضح لنا هويتها؟
ثم ماذا يعني هذا الاختراق المتكرر لتنظيم القاعدة لمناطق حساسة بالجنوب الجزائري، وبالتحديد في المجال الجغرافي الذي يوصف بالحزام الصحراوي النفطي والغازي الذي يشكل عصب الاقتصاد الجزائري، علما وأن قطاعات ضخمة من الجيش الجزائري المزودة بأحدث الأسلحة البرية والجوية، والتي تقدر بعشرين ألف جندي نظامي فضلا عن الآلاف من عناصر الدرك الوطني وأجهزة الأمن الأخرى، كانت ولا تزال منتشرة على طول الحدود الجزائرية انطلاقا من الحدود مع تونس، مرورا بحدود ليبيا، ووصولا إلى الحدود مع مالي والنيجر؟ وهل يمكن، في مثل هذا الوضع، أن يتحدث المرء عن وجود جهات محلية تغض الطرف عن هذه الاختراقات أو تقوم على نحو موارب بتسهيل حدوثها؟
في سياق طرح هذه الأسئلة التي تبحث عن أجوبة شافية ومقنعة، فإنه ينبغي القول إن كل الدلائل تشير على نحو مؤكد إلى أن تنظيم القاعدة لا يستهدف الجزائر فقط، بل إنه يسعى إلى خلخلة أمن المنطقة المغاربية في كل من المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا وليبيا، وهذا ما يراه اللواء الجزائري المتقاعد عبدالعزيز مجاهد الذي صرح منذ ثلاثة أيام للصحافية الجزائرية بجريدة الشروق اليومية الجزائرية نوارة باشوش قائلا “إن المحاولات الفاشلة بالجنوب والحدود الشرقية للبلاد هي جزء من مخطط كامل يستهدف الجزائر وكل المنطقة ضمن مخطط تقسيمها”.
وهكذا نرى أنَ النظام الجزائري يجعل من مشكل الإرهاب مشكلا ذا طابع ذاتي في الوقت الذي يتطلب الأمر النظر إليه كظاهرة عابرة للحدود الوطنية لتصبح ذات طابع إقليمي وعالمي في آن واحد.
وفي الحقيقة فإن هذا الفهم الذاتي يفرز منطقا نرجسيا يحوَّل عن طريق الإسقاط النفسي الذاتي قضية جماعية إلى مشكل خاص معزول. أليس حريَا إدراك أن معالجة قضية الإرهاب في المنطقة المغاربية مشروطة بإيجاد حلول ناجعة لعدة مسائل محورية وفي مقدمتها مسألتان هامتان، حيث أنه من دون علاجهما ستبقى الجزائر تتعامل مع تنظيم القاعدة ومع شبح داعش، ومع التحديات الدولية الأخرى منفردة وبمنطق ذاتي يقصي الفعل المغاربي الجماعي.
إن محاربة التطرف الديني الدموي في الفضاء الجزائري وفي الفضاءات المجاورة تتطلب من الجزائر أن تنأى بنفسها عن هوَامات المنطق النرجسي الذاتي، وأن تتحرك ضمن مظلة فضاء الجماعية المغاربية المستهدفة أيضا، علما وأن إنجاز مثل هذه المهمة مرهون بالشروع في بناء رؤية سياسية تتميز بالانفتاح على الجيران التاريخيين، وبالتخلي عن التراث النفسي الذي يحيي خلافات الماضي وتداعياتها السلبية على الحاضر، شرط أن يكون هذا الانفتاح صادقا يغلَّب كفة عناصر التاريخ التي تربط بين مواطني المنطقة المغاربية على تلك الحالات السلبية التي لا يخلو منها أي سجل تاريخي للدول الشقيقة والمجاورة.
ينبغي الانتباه إلى الجدار النفسي الذي يحول دون إطلاق المبادرة قصد إجراء حوار أخوي شفاف مع المملكة المغربية من أجل تسوية المشكلات العالقة، بما في ذلك مشكلة الحدود المغلقة التي تكرَس العزلة والفرقة بين البلدين، وتلقي بظلالها القاتمة على العلاقات الإنسانية والاقتصادية والثقافية بين الشعبين الشقيقين بحكم الروابط الدموية والجغرافية والتاريخية والمصير الأمني المشترك.
أما القضية الثانية التي تكتسي أهمية بالغة فتتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي التونسي الذي يحتاج فعلا إلى الدعم المالي في صورة برنامج لخلق مواطن الشغل للشرائح الشابة في الأرياف التونسية الفقيرة، وفي شكل استثمارات استراتيجية مستدامة من أجل خلق انفراج مادي في الحياة اليومية للشعب التونسي. وفي هذا السياق لا بد من الوعي بحقيقة أن معظم مظاهر نكوص الشبان والشابات إلى التطرف الديني في مجتمعاتنا، بما في ذلك تونس، تعود مرجعيتها في الغالب إلى الفقر المادي وإلى التشظي الاجتماعي الذي ينتج عنه، وهما العنصران اللذان يؤديان معا إلى الفقر الروحي أو التعبدي الذي يلبس لبوس الأصولية الدينية المتطرفة والمغلقة، ويصيب البيئة الأمنية الوطنية بالخلل والتدمير.
أما القضية الثالثة التي لها علاقة بالتصدي إلى مختلف أشكال الإرهاب في المنطقة المغاربية على أساس منطق الجماعية، فتتمثل في تقديري في توفير الشروط الملائمة عاجلا من أجل نفخ الروح في جسد الاتحاد المغاربي المتهالك بهدف التعامل المسؤول والحاسم مع تعقيدات الوضع الليبي من خلال مؤسسات هذا الاتحاد المجمَد منذ سنوات، سواء تعلق ذلك بتسوية وعلاج تناقضات الفرقاء داخل المجتمع الليبي نفسه، أو بالتفاوض مع القوى الأجنبية التي تحتكر التدخل في الشأن الليبي لفرض مشاريعها وسيطرتها.
من دون إنجاز كل هذه الشروط على أرض الواقع، فإن التصدي لتنظيمي القاعدة وداعش اللذين يخربان هذا البلد ويهددان في آن واحد المنطقة برمتها، سيبقى مجرد ترقيع جزئي وشكلي يتم هنا وهناك فقط.
كاتب جزائري/”العرب”