تواجه تونس، منذ انتصار ثورتها في عام 2011، تحديات عديدة، وكانت الاستحقاقات الأساسية في الأعوام الأربعة الأولى تتمثل في التوصل إلى تفاهماتٍ حول المرحلة الانتقالية. لم تكن المسألة سهلة، لكن الأطراف السياسية والنقابية ومكونات المجتمع المدني نجحت في إدارة خلافاتها بروحٍ ديمقراطية، وتوصلت، من خلال الحوار، إلى إنجاز الدستور، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2014، إلا أن هذا النجاح لم يتحول إلى عامل دفع، كما كان متوقعاً، بل أخذ المركب يسير ببطء، وسط عواصف إرهابية عاتية، دهمته أكثر من مرة.
ويجدر التوقف أمام ملاحظةٍ أساسيةٍ، وهي أن قوى الإرهاب كانت تتربص بالثورة التونسية، منذ لحظة انتصارها وتترصد خطواتها، لكنها لم تتحرّك وترفع رأسها عالياً، إلا في الأوقات التي كانت فيها الديمقراطية التونسية الوليدة تلتقط أنفاسها سياسياً واقتصادياً، وظل هدفها تخريب أي منجزٍ، مهما كان صغيراً، ودفع البلاد نحو حالةٍ من الفوضى.
إقرأ أيضا: صفعة نوعّية للمتطرفين في تونس
ليست قوى الإرهاب في تونس مجهولة، ويعرفها الشعب التونسي جيداً، لأنها كانت موجودة على مسرح الأحداث منذ زمن طويل، إلا أنها عاشت سابقاً في الظل، ولم تنتعش وتظهر إلى العلن، حتى فترة انتصار الثورة على الطاغية، وعلى الرغم من أنها لم تساهم في الثورة، فإنها استفادت من أجواء الحرية والانفتاح التي أشاعتها، وبدلاً من أن تنخرط في التجربة الجديدة التي خاضت غمارها القوى السياسية بمختلف انتماءاتها، فإنها انكفأت نحو الهامش، وبدأت تخطط لتخريب البناء التونسي وتقويضه. وما يميز هذه القوى أنها تتسم بالانتهازية والتوحش والجهل، فهي لولا مناخ الثورة لم تكن لتظفر بفرصة حرية الحركة، ذلك أن أجواء القمع في العهود السابقة جعلتها تنطوي على نفسها، وتنافق الدكتاتورية وتخضع لها. وحين هبت رياح الديمقراطية، لم تحتمل استنشاق الهواء النظيف، وبدلاً من أن تنفتح ضاق صدرها، ولم تجد سبيلاً لتصبح حاضرةً في المشهد سوى القتل والانتحار العبثي الذي ينتهي، في كل مرة، إلى توجيه ضربةٍ في الصميم، ليس فقط للحرية والديموقراطية، وإنما للمواطن العادي الذي دفع ثمن فاتورة انهيار موارد البلاد الاقتصادية، وخصوصا السياحة التي تشكل مصدراً رئيسياً للدخل في تونس. وفي جميع الهجمات التي قاموا بها، تصرّف هؤلاء العدميون بعدوانيةٍ لا مثيل لها تجاه السياحة، من خلال القيام بعمليات قتل جماعي لمرتادي المتاحف والشواطئ من السياح، علماً أن هؤلاء بشر أبرياء، وليسوا مقاتلين أعداء في ساحة معركة.
كان رهان الإرهاب أن تسقط التجربة الديمقراطية، وتنهار الدولة التونسية وتدخل البلاد في دوامة الفوضى، لكن تونس، البلد الصغير محدود الموارد، أبان عن شجاعةٍ قل نظيرها في مواجهة عصابات المنحرفين، ودافع، بحكومته وأحزابه وشعبه وأجهزة أمنه وجيشه، عن الحرية أولاً التي استعادوها، بعد عقود من الدكتاتورية العسكرية التي أقامها نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ومن الإيجابيات اللافتة في الهجمة الأخيرة على مدينة بنقردان مشاركة الأهالي في مواجهة عصابة داعش، وقد رفع ذلك من معنويات قوى الأمن والجيش والحكومة، ولكنه، في الوقت نفسه، عكس الإحساس العفوي لدى الشارع التونسي في رفض الإرهاب، وتقديم الأرواح من أجل كسر شوكته. ويبين الخط البياني للهجمات التي قام بها “داعش” في تونس أن المعركة ليست في صالح الإرهاب، بل أنه سائر نحو الخسارة، ولا مستقبل له في هذا البلد، الذين أخطأوا الحساب حين ظنوه رخواً، فتبين أن سر مناعته هو التمسك بالحرية. وفي الوقت الذي تعلو فيه الأصوات الدولية من باريس وواشنطن وروما ولندن للتدخل عسكرياً في ليبيا ضد داعش، هاهي تونس الصغيرة الجميلة تواجه وحيدة داعش الوحش، وسيكون النصر للجميلة.
شاعر وكاتب سوري/ “العربي الجديد”