تتغيّر الحدود وتتبدّل الجغرافيا مع نشأة الكيانات الهجينة واستيلاد أنصاف الدول الوهميّة في شمال أفريقيا بشكل عام ومنطقة المغرب العربي بصفة خاصّة، فبدء تنظيم “داعش” الإرهابيّ في تنفيذ أوّل هجماته العابرة لحدود الدول الوطنية بين ليبيا وتونس بالتزامن مع دعوة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى ضرورة إعلان ما سماه بـ”الدولة الصحراوية” بعد دحر ما وصفه بـ”الاحتلال” المغربي في ظلّ سعي أمازيغ ليبيا إلى الحصول على المزيد من الصلاحيات الدستوريّة والقانونية والتنفيذية على حساب السلطة المركزيّة لتحقيق الانفصال الناعم تحت مسميات الفيدراليّة وعناوين اللامركزيّة، كلّها مقدّمات جليّة لاستحداث “ المغرب الكبير الجديد” على شاكلة الشرق الأوسط الجديد.
دخل المغرب العربي بعد أحداث 2011 في سيناريو التقسيم على أساس الهويات الإثنيّة، كان من الواضح أنّ إصرار مسلحي الجبل الغربي على رفع العلم الأمازيغي وتفريخ الإذاعات والقنوات والمواقع الافتراضية الحافلة بحلم الكيان الأمازيغي المستقلّ عن الدولة الوطنية والسلطة المركزيّة لم يكن ردّا على أيديولوجيا قوميّة منغلقة اعتمدها العقيد معمر القذافي طيلة أربعة عقود من حكمه الاستبدادي بقدر ما كان مشروعا إثنيّا هوياتيا دفينا تغذّى من أخطاء سياسة “القوميات” المهيمنة والغالبة على الأقليات.
في مقابل الكيان الأمازيغي الليبي الموجود ميدانيا والذي ينتظر الاعتراف الدستوريّ والقانوني ضمن مسودّة الدستور الوليد، تسعى الأمم المتحدة إلى نفخ الروح في كيان صحراوي هجين ترعرع ضمن الحسابات والرهانات الخاطئة للجار الجزائريّ عبر تشديد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على إيلائه الأولوية المطلقة لحقّ “الشعب الصحراوي” في دولته المستقلّة، وهو إصرار لا يراد منه ردّ حقّ مهضوم وإنّما العبث بالدولة الوطنيّة وتغيير الحدود وخلق كيانات وهميّة وظائفيّة متناقضة استراتيجيا وتكتيكيا مع الدولة الأمّ.
في قلب هذا المشهد الاستراتيجي الخطير يكون من العبث للجزائر أن تدعم شرعيّة دولة صحراويّة على الحدود المغربيّة لأنّ سيناريو الكيان الهجين سيستولد ضمن الكيان الأمازيغي على الحدود مع الجزائر وقد يلعب على ورقة الأقلية الأمازيغية في غرداية وغيرها من مناطق شمال وجنوب شرق الجزائر.
العمل الأمازيغي في المغرب يحتاج إلى الكثير من الترشيد والتأطير، لا سيّما بعد سكرة الغلبة التي اجتاحت العديد من الجمعيات الأمازيغية عقب المكاسب الدستورية والإدارية واللغوية والتدريسية التي أقرها العاهل محمد السادس في دستور 2011، حيث اعتمد بعض الفاعلين الأمازيغ هذه المكاسب لشرعنة مقولة “القوميّة الأمازيغية” و”الوطن الأمازيغي” و”تمازغا الكبرى” و”الهويّات الأصيلة” في مقابل الهويات الدخيلة ما أدخل الرباط والمنطقة برمتها في صراع هوياتي داخليّ تجلت ملامحه بوضوح في التجاذب الدستوري القائم حاليا في ليبيا بين “الغالبية العربية” و”الأقلية الأمازيغيّة”، كما تجسمت حدوده الأيديولوجية في زعم بعض الفاعلين الأمازيغ المغاربة بأنّ الصحراء المغربية هي أمازيغية وأنّ انفصالها من المغرب هو استقلال من الاحتلال العربي على شاكلة ما حدث في الأندلس.
على وقع إضعاف الدولة الوطنية وتفتيت مقوماتها العسكريّة والاقتصادية والعبث بعمقها الاستراتيجي واختراق أمنها الوطني تولدت كيانات هجينة متناقضة مع التاريخ والجغرافيا.
إقرأ أيضا: وزير خارجية كينيا السابق: تصريحات بان كي مون مضللة وتفتقد للحياد
فلئن كانت حدود سايكس بيكو حدود خلق دول قطرية لمنع نشأة الدولة القومية فإنّ حدود الكيانات الوليدة هي حدود تفتيت الدولة الوطنية والحيلولة دون إعادة نشأتها من جديد.
المفارقة أنّ حتّى تسميات هذه الدول لا تشير إلى مفهوم المدنية أو دلالة الدولة، فمتى بنيت الدول العظمى والكبرى في شتات الصحراء أو في أحراش الأرياف؟ ومتى كانت الإثنيّات اللغويّة الأقلياتية لبنة تأسيس الدول؟ ومتى احتكر الإسلام –طقوسا وعقيدة وسلوكا- في كيان هجين يستلذّ بشبقيّة الدم تحت عناوين “المقدس والمسدس”؟
هي المنطقة المغاربية الجديدة بين كيان أمازيغي وثان صحراوي وثالث داعشيّ في صيرورة التشكل السريع، وبين دولة ليبية كانت ولن تعود، ومغربية يراد لها أن تصبح “بلا جنوب صحراويّ”، وجزائريّة تراهن على تقسيم جارتها وتنسى أنّها على شفا الانقسام الناعم والملطّف والبارد أيضا.
كان القرن العشرون قرن نهاية الإمبراطوريات وبداية الدول القوميّة، القرن الحادي والعشرون هو قرن الأقليات المتمردة والكيانات الوهمية والميليشيات شبه الرسميّة.
كاتب تونسي/”العرب”