صدق الزعيم الاشتراكي الاسباني، فيلبي غونثالث، حينما توقع قبل الانتخابات التشريعية، ان بلاده ستنضم الى نادي البلدان التي تعاني من تبعات الانظمة الرئاسية البرلمانية، حينما تصطدم بمشكلة تأليف وجمع اغلبية حكومية، مثلما هو الحال في إسپانيا التي تعيد ازمتها الراهنة الى الاذهان، صور الازمات الحكومية التي واجهتها ايطاليا في الماضي القريب.
وعلى ما يبدو، فإن اسبانيا تتجه، اذا لم تحدث معجزة سياسية، نحو أزمة حكومية طويلة الامد، قد تنتهي بدعوة الناخبين مجددا الى صناديق الاقتراع،لاستنساخ مشهد لن يختلف عن الحالي وهو المتسبب في ازمة غير مسبوقة، استنادا لاستقراء اراء الناخبين عبر استطلاعات الرأي سواء العلنية او تلك التي تجريها في السر اجهزة خاصة من قبيل الاستخبارات و مؤسسات “السبر” التي تنجز خدمات تحت الطلب لفائدة الدولة والاحزاب السياسية وكذا المؤسسات المالية التي يهمها معرفة ما يمور في البلاد قبل طرح اموالها في السوق.
ولا يحتاج المحلل الى خيال خصب لتوقع السيناريوهات الممكنة في غضون الايام المقبلة،لدرجة ان طائفة منهم، اي المحللين،اعربوا مبكرا عن شكوكهم في حصول انفراج سريع منذ ليلة العشرين من ديسمبر الماضي. بات واضحا ليلتئذ ان إسبانيا ابتليت بما لم تكن مستعدة له من برلمان مبلقن، تتصدره احزاب شديدة التباين في المواقف والبرامج وسبل التعاطي مع الوضع المستجد.
وليست إسپانيا، بلدا من العالم الثالث ولا مجتمعها مغلقا غائبا عن التحولات الجارية في الداخل مثلما يفترض انها تحس بلفح الحرارة او البرودة التي تصلها وتهب عليها من الخارج. فكيف لم تستعد الطبقة السياسية لهول المفاجأة ؟ولماذا لم تستفد في هذا الصدد، من التراث السياسي الايطالي.
وإذ احاول التعبير عن صدى ما قرات وسمعت وشاهدت في مجمل وسائل الاعلام الاسبانية،حيث لاحظت ان اللوم فيما حصل موجه في المقام الاول، الى الحزب الشعبي وزعيمه ماريانو راخوي، رئيس الحكومة المنتهية ولايتها.
يقول منتقدوه انه كان بإمكانه ان يحلحل الوضع السياسيفي الوقت المناسب،باتخاذ اجراءات وتدابير استباقية من قبيل ابداء مرونة واستعداد للحوار مع دعاة استقلال اقليم كاتالونيا وعرض بدائل امامهم للتفاوض بشأنها، مع حشد الانصار والمؤيدين من باقي الاحزاب السياسية، القومية والوطنية، منعا لاستحكام العداء السياسي.
صم حزب، راخوي، آذانه عن ما يمور في اقليم طالما أظهر نزعة انفصالية، مدفوعا بأسباب ومبررات تاريخية، فيها الصائب مثلما فيها قدر كبير من الدجل السياسي والمزايدات الهوياتية والمغامرات اليسارية الفوضوية. والنتيجة ان الطرفين باتا عند حافة المواجهة.
فوت، راخوي، ايضا فرصة ذهبية، تتمثل في فتح نقاش وطني بخصوص إجراء تعديل دستوري، يعيد هيكلة الحقل السياسي،خاصة وان حزبه كان يتمتع في مجلسي البرلمان بأغلبية مريحة تتيح له التحكم في لعبة التعديل وضخ الاصلاحات الضرورية في جسم سياسي منهك،لم يعد قادرا على تحمل القطبية الثنائية التي حكمت البلاد منذ اقرار دستور 1978 الذي شكل في حينه ذروة التوافق الوطني، بين فاعلين حزبيين اختفوا الان من المشهد بعد ان شيدوا بحكمتهم وبعد نظرهم،صرح الانتقال الديموقراطي في إسبانيا الحديثة،المكلومة بجراح الحرب الاهلية وندوب الاستبداد الفرنكوي. لم يصغ الزعيم الى نبض المجتمع بل أضفى على الدستور صفة القداسة المطلقة.
اقرأ أيضا: “پيدرو سانشيث” قريب من قصر “لا منكلوا” والمتاريس كثيرة في طريقه!!
كان بإمكان الحزب الشعبي،المبادرة أيضا الى اجراء انتخابات سابقة لأوانها قبل استفحال ظاهرة الاحزاب الوافدة على الساحة لاول مرة ؛ لكن الحزب الاغلبي استسلم لنشوة حضوره المهيمن في البرلمان،متباهيا بإنقاذ البلاد من نفق الازمة المالية التي تركها الاشتراكيون. هي فرص لا تعوض ضاعت مثل اخرى.
فشل الحزب الشعبي في الحصول على اغلبية بمفرده في الانتخابات الاخيرة، لكنه بالمقابل نجح في امتلاك صفة “الحزب المعرقل” فمقاعده 123 تمنحه القدرة على افساد اي تحالف حكومي،ما لم يكن الحزب المحافظ قائده، فأصبح بالتالي في نفس وضعية نقيضه حزب ” پوديموس” المغرور بانتصاره والطامح في السلطة بشراهة قل نظيرها، باصراره على حكومة يسارية تقدمية،في حين ان الناخبين الاسبان لم يصوتوا على اليسار باغلبية وازنة في البرلمان الجديد.
امام وضع سياسي شبيه بالذي تعيشه اسبانيا لاول مرة، يصعب تصور مخرج سهل من دوامتها السياسية، ولا سيما في اعقاب فشل مباحثات زعيم الحزبين الاشتراكي والشعبي : پيدرو سانشيث وماريانو راخوي. هذا الاخير متشبث بحقه الدستوري في تشكيل الحكومة، كاعتراض مهذب منه على قرار الملك اسناد التكليف الى غريمه الاشتراكي.
هنا يضيف راخوي خطأ الى سجله الحافل. هو ينسى ان سمعة حزبه تلطخت من جراء فضائح الفساد السياسي والمالي وانتشار رائحة الرشوة والزبونية في مفاصل التنظيم. اخلاقيا، يستحيل على اي حزب قبول المشاركة في حكومة يقودها حزب مورط في فضائح متناسلة.
لقد ابرز اللقاء الوجيز الذي جمع راخوي وسانشيث، في غرفة محايدة بمبنى المؤسسة التشريعية، صورة مشهد بئيس ومحزن نال سخرية كثير من المعلقين الاسبان، تساءلوا لماذا ذهب الزعيم اليميني الى الاجتماع،ما لم تكن له نية في المساعدة على انفراج ازمة سياسية مستحكمة؟
سيعود، سانشيث، المكلف بتشكيل الحكومة في الايام القادمة، لممارسة رياضة المشاورات مع الحلفاء المحتملين للمثول امام البرلمان خلال الاسبوع الاول من الشهر المقبل.
لنفترض انه شبه واثق من اقناع حزب ثيودادانوس” لكن الاخير يشترط بقاء “پوديموس” في المعارضة. وهذه نقطة خلاف بين،البرت ريڤيرا، وسانشيث، الذي يريد استنفاد كل المحاولات ليتمكن في النهاية من جمع النقيضين،ريڤيرا، وإيغليسياس، في بوتقة واحدة ستسمى ان تمت الولادة “حكومة تقدمية اصلاحية”. سيناريو بعيد التحقق ان لم يكن مستحيلا، ما لم تدفع اليه رغبة شخصية.
اكيد ان الزعيم الاشتراكي المكلف، يأمل في امكانية وحيدة متبقية له :تشكيل حكومة اقلية من حزبه وثيودادنوس، ومساندة احزاب قومية صغيرة معارضة لاستقلال كاتالونيا.
دستوريا وعمليا، يبدو هذا الاحتمال ممكنا، بشرط ان يغيب الحزب الشعبي بكتلته البرلمانية الاولى، عن جلسة التنصيب او يمتنع عن التصويت ليصطف في المعارضة. حل غير مقبول ديموقراطيا واخلاقيا ومعيب دستوريا!!
وليس امام الطبقة السياسية في خاتمة المطاف سوى عجلتين للنجاة :اما تاليف حكومة ثلاثية من الشعبي والاشتراكي وثيودادانوس، كما يطمح راخوي، وإما العودة الى صناديق الاقتراع،في اجواء وضع مأزوم وصورة البلاد مخدوشة في كبريائها.
واذا ما انتصر الحس الوطني وروح المصلحة العليا في الحزب الشعبي وقبل حكومة اقلية بدونه، فلن تكون التشكيلة الا ضعيفة ومؤقتة،لا تختلف عن أية حكومة تصريف اعمال!!.
لذلك، يبدو ان الحسم في الازمة السياسية يتطلب اشواطا وجولات اضافية، لترجيح كفة جبهة ضد اخرى.
مطلوب من المغرب ان يتابع المباراة بيقظة شديدة وانتباه وصبر كبير. ستطول المباراة!!