يرسخ يقين، مع مرور الأيام، أن الوسيلة الديمقراطية الناجعة المجربة في دول وأوضاع، عاجزة حتى إشعار جديد، عن حل المعضلة السياسية التي تتخبط فيها إسبانيا منذ حوالي ثلاثة أشهر؛ أمضت الطبقة السياسية أكثرها، في مشاورات عقيمة، عمقت الهوة بين الفاعلين الحزبيين المتصارعين في الميدان المتصلبين في مواقفهم.
والمثير في هذه الأزمة غير المسبوقة في مداها الزمني، أن القوة التي يعول عليها عادة للحسم في الخلافات الحزبية، أي الرأي العام، تظهر قدرا من السلبية، لا تبدي غضبا حيال السياسيين المتسببين في إطالة الأزمة، على غرار ما يحدث في الأنظمة الديمقراطية والعريقة.
ويشك محللون في أن الإسبان، وهم من بيدهم الحل والعقد، ربما استحلوا فصول الميلودراما السياسية، وألفوا متابعة أطوراها، موزعين بين الاهتمام واللامبالاة، فكأنهم يتفرجون على مباراة حامية الوطيس في كرة القدم التي يعشقونها حتى الوله.
الأشد غرابة في الوضع الإسباني أن أغلب استطلاعات الرأي متفقة على أن إعادة إجراء الانتخابات التشريعية، يوم السادس والعشرين من يونيو المقبل، لن يغير من تعقيدات المشهد الانقسامي الحالي. سيظل الحزب الشعبي المحافظ المنتهية ولاية حكمه، في طليعة الأحزاب الممثلة بقوة في البرلمان، يليه، كما هو الوضع حاليا، الحزب الاشتراكي العمالي، الذي فشل زعيمه، بيدرو سانشيث، مرتين في تأليف أغلبية ملتفة حول شخصه لخلافة، ماريانو راخوي، في قصر”لا منكلوا” مقر رئاسة الحكومة بمدريد.
اللافت في الأمر أن الحزب الشعبي الذي حكم البلاد خلال الولاية السابقة، ما زال محتفظا بقوته وشعبيته الانتخابية، وهو الغارق حتى أخمص القدمين في بحر من ملفات الفساد والمالي والرشوة الموصوفة من شركات لقاء تفويت مسئولين حزبيين لصفقات مشبوهة، جرتهم إلى المحاكم.
ولا شيء يفسر تسامح أكثر من سبعة ملايين ناخب حيال التنظيم المورط واستعدادهم لتجديد ثقتهم فيه، سوى خوفهم من انجرار البلاد نحو الفوضى وعدم الاستقرار؛ وإلا لكان الحزب الشعبي مرتبا في ذيل قائمة أي استحقاق واقعي أو افتراضي.
نفس الشيء ينطبق على “بوديموس” المتهم بالتملص الضريبي والتعتيم على حسابات الحزب، بل الأخطر من كل ذلك، شكوك بخصوص تلقيه أموالا من إيران وفنزويلا، تحت غطاء خدمات واستشارات فنية أسداها في حينها مؤسسو الحزب الفتي.
وهذه المفارقة العجيبة تؤكدها آخر استطلاعات رأي أجريت أخيرا، وفق عينات متفاوتة في درجة التمثيلية. الجديد الذي حملته نتائجها تمثل في تغير طفيف في ترتيب الحزبين التاليين أي: “بوديموس” و”ثيودادانوس” اللذين يتبادلان المرتبة الثالثة والرابعة، فيما بقيت القوى الأخرى على حالها تقريبا.
وتفيد ذات النتائج أن الولاء الإيديولوجي والاعتبارات الشخصية ما زالت مؤثرة إلى حد كبير في اختيارات الناخبين الإسبان وفي نظرتهم إلى تنظيماتهم الحزبية والمفاضلة بينها.
ولو كان الأمر خلاف ذلك، لمالوا إلى تحكيم الواقعية والبراغماتية وتفضيل المصلحة العليا لإخراج بلادهم من الجمود المضر بها في الداخل والخارج، بدل التعلق بأهواء إيديولوجية، جهة اليمين أو اليسار.
قد تكون تلك خاصية تنفرد بها إسبانيا دون غيرها من الديمقراطيات الغربية حيث تكون العودة لصناديق الاقتراع مرادفة للانفراج السياسي.
ومن الواضح أن القوى الحزبية الرئيسة في إسبانيا تخشى إعادة امتحان الانتخابات التشريعية، ما قد يدفعها في غضون القادم الأيام، نحو التنازل عن بعض كبريائها وعنادها والانخراط في صيغة توافق ينهي الأزمة المستحكمة وتمكين البلاد من “حكومة الضرورة” لن تكمل قطعا الولاية المحددة في أربع سنوات؛وستكون معجزة إن اقتصرت مهمتها الأساس على تحريك دواليب الدولة المهددة بالصدأ، وفض ما يمكن من الخلافات بالتعاطي السريع مع الملفات العالقة والمستعجلة، استنادا إلى برنامج أولويات.
إن المعركة الانتخابية الفصل لم يحن بعد موعدها في إسبانيا؛ قد تقع بعد إعادة هيكلة البنيان المؤسساتي وتعديل الدستور.
احتمال الاتفاق بات مرجحا، لاحت مؤشراته، بعد أن اشتدت مناداة وسائل الإعلام وعقلاء السياسة بوضع حد للعبث المرتكب باسم الديمقراطية.
ورغم ما يمكن أن يثيره الحل المتوقع من زوابع في صفوف القوى الفوضوية المعترضة، وهي التي تعمل جاهدة، في السر والعلن، على إدامة الاحتقان والسعي إلى تفكيك منظومة الحكم وتقويض أركان الدولة الإسبانية، باستغلال أجواء الأزمة الاقتصادية ويأس قطاعات اجتماعية من عدم وفاء الأحزاب السياسية بوعودها في الإصلاح وترقية المجتمع؛ رغم كل ذلك، يبقى اتفاق الطبقة السياسية، الحل الأقرب لمنطق الضرورة.
وفي هذا الصدد، فإن أخطر ما يتهدد المجتمع الإسباني، بروز دلائل ومؤشرات قوية على انعطافات حادة في الوعي السياسي بين الأجيال والأعمار والمناطق؛ تتجلى في انقسام الكتلة الناخبة. الفتيان والشبان منبهرون بأفكار حزب “بوديموس” وتوابعه اليساريين، في مقابل تمسك أبائهم والأكبر منهم سنا بأفكار الأحزاب التاريخية المدافعة عن الاستقرار.
ويزيد من صعوبة الوضع أن الدستور الإسباني، وضع قيودا على ملك إسبانيا فمنع عليه تقريبا التدخل في الشأن السياسي، باستثناء مجالات بروتوكولية ضيقة، يمارس من خلالها دور “الحكم الرمزي”. وهنا تبدو بجلاء نقائص الملكية البرلمانية إن لم تتأسس على وضع سياسي تاريخي ومجتمعي يقبلها؛ يقينا أنها كانت في حينها الشكل الأمثل لحكم بلاد خارجة من الحرب الأهلية وطول استبداد نظام ديكتاتوري دموي، قهر الأنفاس لما يربو على ثلاثة عقود.
إقرأ أيضا: ملك اسبانيا يعيد الكرة إلى الأحزاب ومناورات “پوديموس” مكشوفة
وكلما طال أمد أزمة سياسية، إلا وتفرعت عنها أخريات. هكذا شرعت العناصر المتطرفة “المغامرة” في التلويح بمخططاتها العدمية، عبر اللجوء إلى التحريض على العنف والاحتجاج والحث على العصيان المدني بل والسخرية من ملك البلاد، إرضاء لنزواتها، ما قد يجر نحو فوضى واضطرابات.
صحيح أن إسبانيا العضو المؤثر في الاتحاد الأوروبي، محصنة من أشكال الردة السياسية المدنية والعسكرية الداخلية، نتيجة ارتباطها الوثيق بالكيان الأوروبي الذي يفترض أن يهب لنجدتها إذا ما ادلهم ليل الديمقراطية فيها، لكن القارة العجوز نفسها غارقة في مشاكلها الذاتية وتبعات توسعها ووحدتها، وهي قلقة من بروز قوى اجتماعية منكفئة على ذاتها تسعى إلى إغلاق الحدود والتخلي عن حلم الإباء الوحدويين.
وما يزيد الأوضاع احتقانا في إسبانيا، لجوء جماعات يسارية متطرفة باستفزاز أتباع الكنيسة الكاثوليكية.فقد تحدثت تقارير صحفية عن تضييق مادي ومعنوي من طرف بلديات يسيطر عليها اليسار الشعبوي؛ ضيقت الخناق على أنشطة مدنية وترفيهية تشرف عليها المؤسسة الكنسية وجمعيات دينية إحسانية في مناطق إسبانية وخاصة في الأعياد المقدسة.
أوقفت تلك البلديات المساعدات الرمزية التي تخصصها للأنشطة الخيرية وسحبت الشرطة المحلية من حماية التجمعات، كما منع على المنتخبين المشاركة أو الحضور في احتفالات ذات طابع روحي حتى ولو اقترنت بعمل البر والإحسان.
هذا تطور سلبي، سيتحمل اليسار المتطرف مسؤولية عواقبه إن تسبب في اندلاع احتقان اشد بين الناس.
وعلى الرغم من أن الدولة الإسبانية مدنية وعلمانية، فما زال المكون الديني عميقا في نفوس قطاعات عريضة من الشعب الإسباني، يتجلى في طقوس سياسية محددة كتتويج الملك، على اعتبار الدين إرثا ثقافيا مشتركا فيه من الإيجابيات أكثر من السلبيات ولا يمكن محوه بالتصرفات الاستفزازية التي يضرم الفوضويون نارها وقد يتخذها الطرف المعتدى على معتقداته ذريعة للمواجهة وردود فعل أعنف.
وللتذكير، فإن حماية الكنيسة من خطر الإلحاد، كانت إحدى المسوغات لانقضاض العناصر المحافظة في الجيش الإسباني عام 1936 بالتمرد على الديمقراطية والإطاحة بالشرعية الدستورية وإغراق البلاد في خضم حرب أهلية طاحنة خلفت ضحايا عدوا بمئات الآلاف.
صحيح أن التاريخ لن يعود القهقرى، فإسبانيا العليلة سياسيا، تبدو متشبثة، بالخيارات الديمقراطية وبالتدافع السلمي، لا يحدق بها خطر إحياء الماضي المرير؛ بيد أن أزمة الحكم الحالية، تكبل سيرها الطبيعي وتعرقل تطور دولة قوية تعددية ومستقرة ومتضامنة في شبه الجزيرة الأيبيرية. وهذا ليس في صالح إسبانيا الأقربين والأبعدين…