لقد صدرت كتب خصصت لخلفيات الاحتلال الفرنسي للجزائر وأخرى عن المقاومة الوطنية بشقها العسكري والشعبي، وهناك أيضا مؤلفات قليلة جدا حول دور إعلام حركة التحرر الوطني الجزائري. وفضلا عن ذلك فقد كتب الكثير عن المعارك والمخططات الفرنسية وتطبيقاتها لتحطيم الهوية الثقافية الوطنية.
بالمقابل لم تقم الجزائر بجمع ونشر كل ما نشر في دور النشر الفرنسية وفي الإعلام الفرنسي أثناء الاحتلال الفرنسي وبعده سوى بعض الشذرات القليلة والنادرة، علما أن هذا التراكم من الكتابات يشكل جزءا مهما من أرشيف حركة التحرر الوطني الجزائري ومن ذاكرة التاريخ.
ويلاحظ أيضا غياب الدراسات والمؤلفات الجادة ذات الطابع الشعبي أو ذات الطابع الأكاديمي التي أبرزت وتبرز تأثير حركة التحرر الوطني طوال فترة الاستعمار على الثقافة الفرنسية، والفكر الفرنسي والنفسية الفرنسية.
إن هذا التأثير المعاكس الذي رافق مرحلة الاستعمار، ولا يزال قائما في مرحلة ما بعد الاستعمار، مهم جدا ويحتاج فعلا إلى جهود جبّارة لإنجازه من طرف وزارة المجاهدين بالتنسيق والتعاون مع وزارتي التعليم العالي والثقافة والإعلام من أجل إبرازه وجعله جزءا مفصليا من تراث المقاومة الوطنية. إنه من دون إنجاز هذا العمل سوف لن تعرف الأجيال الفرنسية ما حدث لثقافتها من تغيرات، ومن خيانات الموقف الثقافي الاستعماري الفرنسي لإرث الثورة الفرنسية ولمبادئ حقوق الإنسان وغيرها من القضايا ذات الصلة.
مثلا، معظم الكتابات الفرنسية، سواء كانت تاريخية تؤرخ للنشاط العملي والعلمي للحركة الطلابية الفرنسية، أو تلك التي ترصد المنابع الفكرية والمصادر الإيديولوجية لهذه الحركة، لا تعطي في مجموعها مكانة لائقة لدور الحركة النضالية الجزائرية في تشكيل الوعي السياسي والإيديولوجي للشباب الفرنسي داخل المنظومة التعليمية والتربوية الفرنسية. ونتيجة لهذا، فإننا نجد معظم المؤرخين الذين يؤرخون لدور هذه الحركة الطلابية في مساءلة التناقضات الطبقية وديكتاتورية البيروقراطية في المجتمع الفرنسي في الستينات من القرن العشرين يفسرون الأمور على أساس يطمس دور المقاومة الجزائرية وتأثيرها في الحياة الطلابية الفرنسية، ويُعتبر هذا أحد نقائص الكتابات الغربية الحديثة التي تتناول مشهد الفكر الفرنسي المعاصر. إن هذا الدور لم تبرزه الكتابات الجزائرية أيضا.
إقرأ أيضا: فرنسا والجزائر… حِبرُ الماضي المعلّـّق
أود الآن لفت الانتباه إلى كتاب يكتسي أهمية خاصة وهو من إنجاز الباحث الجامعي الفرنسي “فرانسوا سيرنللي” ويحمل عنوان “المثقفون والأهواء والفرنسية ” الذي أعتبره محاولة معتبرة لكتابة جزء من السيرة العامة لمواقف المفكرين والأدباء والمثقفين الفرنسيين تجاه مجتمعهم وتجاه قضايا مجتمعات العالم الثالث التي خضعت للاحتلال الاستعماري الاستيطاني الفرنسي. إلى جانب ذلك فإن كِتاب “المثقفون والأهواء الفرنسية” قد خصص مكانا لقضية الجزائر المستعمَرة مدرجا إياها ضمن الأبعاد ذات التأثير على واقع الحركة السياسيةـــ الثقافية في المجتمع الفرنسي وأنها قد لعبت دورا تاريخيا في الكشف عن تناقضات المجتمع الفرنسي وهي التناقضات التي فجرت خلافات حادة أدت فعلا إلى انقسام اليسار الفرنسي بشقيه السياسي والفكري إلى مواقف تميزت بالتوتر والصراع.
يؤكد “فرانسوا سيرنللي” أن الساحة الثقافية السياسية الفرنسية قد شاهدت في شهر جانفي من عام 1955 أي بعد اندلاع الثورة الجزائرية بشهور قليلة نقاشا خلافيا تركز في البداية حول أخلاقيات وسلوكيات الجيش الفرنسي في الجزائر، وقد دار هذا النقاش بين مثقفي اليسار الفرنسي.
ومن جهة أخرى، يذكّرنا مثقف فرنسي آخر وهو كلود بوديت في مقاله الذي نشره على صفحات “نوفيل أبزرفاتور” في عام 1955 أن الإدارة الفرنسية قد اتبعت في الجزائر المستعمَرة نهجا متطابقا مع النهج النازي الهتلري، وأن البوليس الفرنسي كان متطابقا في التنظيم وفي الممارسة القمعية والتعسفية مع “الغيستابو” النازي في العهد الهتلري. وهكذا وصف كلود بوديت البوليسَ الفرنسي والتنظيمات التي تفرعت عنه بـ”الغيستابو”، وبهذا الصدد قال بأن هذا “الغيستابو قد أكد منذ البداية على التحريض ضد المسلمين الجزائريين”.
ونجد على صفحات منبر إعلامي فرنسي آخر و هو جريدة “الاكسبرس” موقفا للكاتب الفرنسي الشهير “فرنسوا مورياك” يدين فيه بوضوح أعمال التعذيب التي ارتكبها الجيش الفرنسي بالجزائر، ويبرز هذا الموقف في مقال له يحمل عنوان “المسألة”.
إذا عدنا مرة أخرى إلى “كلود بوديت”، فإننا نجده يحمّل شخصياتٍ سياسية فرنسية مسؤولية الاستعمار المتعنت، وبهذا الصدد كتب قائلا: “الاستعمار الكبير هو الذي يعطي الأوامر ولكن السيدين “منديس فرانس” و”فرنسوا ميتران” هما المسؤولان أمام الرأي العام وأمام التاريخ.
إن كلود بوديت كان يدرك أن الحكومة الفرنسية التي كان فرنسوا ميتران وزيرا للداخلية بها هي المسؤولة عن البوليس السري الفرنسي، وعن ممارساته القمعية ضد السكان الأهالي في الجزائر المستعمَرة.
ولكي يسمع المثقفون الفرنسيون المعادون للحرب ولظاهرة الاستعمار صوتهم عاليا فقد قاموا بإنشاء “لجنة العمل” ضد الحرب في شمال إفريقيا، وكان كل من “فرنسوا مورياك” و”كلود بوديت” عضوين فيها و إلى جانبهما كان “دي فورست والفيلسوف وإدغار موران كمؤسسين لهذه اللجنة، وانضم إلى هؤلاء عدد من الشخصيات الشهيرة في الحياة الثقافية والفنية والسياسية الفرنسية منهم “روجر مارتن”، و”جان بول سارتر”، و”لاي جار” و”أندري بروتون” زعيم الحركة السريالية في فرنسا والغرب معا، وآخرون..
أريد القول هنا إن تأثير التجربة الجزائرية على السير الذاتية الثقافية والفكرية للمثقفين والمبدعين والمفكرين الفرنسيين أمثال لويس ألتوسير، ويير بورديو، وجان فرانسوا ليوطار، وجان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وجاك لاكان، وإدغار موران وألبير كامو وغيرهم كثير، جديرة بالتسجيل والفحص. إن ما أذكره في هذه العجالة لا يمثل إلا مدخلا أوليا حيث ينبغي تخصيص فضاء أوسع لدراسة علاقة المثقفين الفرنسيين اليمينيين واليساريين بالجزائر أثناء الحرب التحريرية ضد الاستيطان الفرنسي على مدى قرابة قرن وثُلث قرن.
من المعروف أن مهمة دراسة هذا النمط من العلاقة ليس بأمر هيّن؛ إذ يحتاج الباحثون إلى سنوات طويلة من العمل من أجل تسجيل وفحص الأرشيف الإعلامي الفرنسي المتصل بالجزائر، وعلى أكبر قدر معين من الكتب والدراسات والمقالات الأدبية والفكرية المتفرقة الصادرة بفرنسا وفي الغرب في ذلك الوقت بصفة عامة.
أعتقد أن مهمة إنجاز دراسات علمية جادة وتوصيلها إلى الأجيال الفرنسة وإلى الأجيال الجزائرية الجديدة حول تأثير التجربة التحررية الجزائرية على كل مكونات الثقافة الفرنسية، تمثل في رأيي مشروعا أساسيا، وذلك لإبراز الهوية الثقافية لحركة النضال التحرري الجزائري من جهة، ولإعادة كتابة تاريخ هوية فرنسا الحديثة والمعاصرة على ضوء تأثيرات الجزائر.
إن هذه المهمة الوطنية كبيرة وضرورية لإعادة بناء ذاكرة التاريخ، وهي تستدعي فحص التاريخ الفرنسي، وكافة عناصر الثقافة الفرنسية الشعبية، والأدبية، والفكرية. كيف ينبغي إنجاز هذا المشروع المصيري؟ هذا ما سوف أحاول النظر فيه فيما بعد.
*صحفي جزائري/”الشروق”