بانعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب “حراك تونس الإرادة”، يكون المنصف المرزوقي قد خطا نحو مرحلة جديدة في مشواره السياسي، بعنوان جديد، ولكن، بمفردات قديمة، ظلت تلازم خطابه في مراحل عمله السياسي المتتالية، منذ توليه الرئاسة سنة 2011، ويظل السؤال: ما الذي تغير في الممارسة السياسية لدى المرزوقي وحزبه، منذ تجربة “المؤتمر من أجل الجمهورية” إلى حد لحظة تأسيس الكيان الجديد؟
مؤكد أن المؤتمر من أجل الجمهورية عندما خاض انتخابات 2011 كان يتمتع بتشكيلة مهمة من الوجوه السياسية الفاعلة والمؤثرة، ليس أقلها شخصيات، مثل عبد الرؤوف العيادي ومحمد عبّو، وقد تمكن الحزب، على الرغم من صيغته المهلهلة تنظيمياً من تحقيق اختراق انتخابي واضح حينها، بحلوله ثانياً بعد حركة النهضة، ومشاركته في الحكم ووصول رئيسه إلى منصب رئاسة الجمهورية.
لم تكن التجربة في مجملها مشجعة، فلم تنقض السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة، حتى كان الحزب قد تشقق، وعرف صراعات حادّة، أفضت إلى انشطاره إلى ثلاث قوى حزبية، الأمر الذي انعكس سلباً على أدائه في انتخابات 2014، حيث اكتفى حزب المؤتمر بمقاعد قليلة في مجلس نواب الشعب، لم تتجاوز الأربعة. على أن أداء المنصف المرزوقي في الانتخابات الرئاسية كان أفضل، بتمكنه من المرور إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، وخسارته بفارق معقول من الأصوات، وهو في إنجازه هذا عرف كيف يستفيد من حالة التحشيد الثنائي الذي جرى حينها بين ناخبي حزب “نداء تونس” وأنصار حركة النهضة الذين منحوا، في غالبهم، أصواتهم للمرشح المرزوقي.
بعدها، دعا المرزوقي إلى تشكيل ما سماه يومها، حراك شعب المواطنين، الذي ظل عنواناً فضفاضاً أكثر منه كياناً تنظيمياً واضح المعالم، محدد القسمات. و في الذكرى الخامسة لاندلاع الثورة التونسية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، صدر البيان التأسيسي لحزب سياسي جديد، اختار له مؤسسوه اسم “حراك تونس الإرادة”، وتشير التوجهات العامة لهذا الجسم السياسي الجديد أنه بصدد الحفاظ على الخطوط العامة نفسها لحزب المؤتمر، ومن بعده حراك شعب المواطنين، من حيث كونه يحاول مجاوزة خطوط المفاصلة الإيديولوجية، والتركيز على تثبيت المسار الديمقراطي، والمناداة بالإصلاح، بصورته الأكثر شمولاً، في مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومخاطبة أكبر قطاع ممكن من الشارع السياسي، حيث يرد في البيان التأسيسي لـ “حراك تونس الإرادة” تأكيده “إن مشروعنا الهادف إلى بناء شعب من المواطنين ودولة للجميع ومجتمع خال من الاستبداد والاستغلال، جزء من حراك مجتمعي يتجاوزنا جميعاً، وتلعب فيه القوى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية دوراً هائلا”. وينتقد المرزوقي، في خطابه الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي، أداء الحكومة الحالية في الملفات الأساسية الثلاثة (مكافحة الفساد، التصدي للإرهاب والسياسة الخارجية)، ويرى أن المدخل الأساسي للإصلاح يمر حتماً عبر ما أسماها الكلمات المفاتيح الثلاث (الحوار، المصالحة الوطنية، الاستقرار).
إقرأ أيضا: تونس..حزب المرزوقي الجديد يرى النور
وبعيداً عن الجانب الخطابي في الأداء السياسي، فإن الكيان الجديد الذي تم الإعلان عنه يثير تساؤلات بشأن مدى قدرته الفعلية على التحول إلى بديل حقيقي، قادر على مجاوزة القوتين الأساسيتين المهيمنتين على المشهد السياسي حالياً، ونعني بهما حركة النهضة وحزب نداء تونس، وهل يمكن لحزب “حراك تونس الإرادة” أن يقدم بدائل حقيقية قادرة على الإقناع، وقلب الصورة في المشهد الحالي، بعيداً عن الطوباوية الحالمة والكلمات الجذابة. فبالمراجعة السريعة لقائمة المؤسسين (المتركبة من 56 شخصية) يمكن أن نلاحظ أن غالبية العناصر تنتمي، سابقاً، إلى “المؤتمر من أجل الجمهورية”، الحزب الذي أسسه المرزوقي، وخاض من خلاله انتخابات 2011 ومن بعده 2014، وأن نسبة التجديد شملت انضمام بعض الشخصيات ذات الحضور السياسي، ولكن من دون أن يعني هذا أننا بصدد كيان مختلف، من حيث الشعارات والتصورات عن سلفه (المؤتمر).
بالإضافة الى أن الامتحانات الانتخابية المقبلة، وأولها الانتخابات المحلية، ستكون اختباراً حقيقياً لمدى تجذر هذا الكيان الجديد من الناحية الشعبية، وقدرته على اجتذاب شرائح جديدة خاصة من الشباب الذي يعاني من درجة عالية من العزوف عن المشاركة في العمل الحزبي، إذا أخذنا في الاعتبار أن تغيير العناوين وحدها لا تصنع حزباً قوياً، بقدر ما تصنعه البرامج الفعلية، والتواصل الحقيقي مع جماهير الناس، والتعبير عن تطلعاتها، وتقديم حلول واقعية لمشكلاتها، بعيداً عن الشعارات وخوض الصراعات الهامشية. ومن دون أحكامٍ مسبقة، تظل التجربة الجديدة التي يخوضها المرزوقي ورفاقه محاولة جادةً، ولا ريب، لإعادة تشكيل المشهد السياسي، شريطة تجديد أدوات العمل، خصوصاً وأن الأساليب التي قام عليها حزب المؤتمر سابقاً كشفت عن هشاشة فعلية في الأداء، سواء من الناحية التنظيمية، حيث تفتت الحزب في صيغته الأولى، أو من ناحية الانتشار الجماهيري، حيث فشل “المؤتمر” في اجتذاب الشارع، والحفاظ على كتلته الناخبة، خصوصاً وأن الجمهور الذي يتوجه إليه هو محل صراع بين قوى مختلفة، ترفع شعارات متشابهة، لا يشعر معها المتلقي بوجود خصوصية لكيان سياسي دون آخر.
المشهد السياسي في تونس، اليوم وبعد سنوات خمس من الثورة، مفتوح على تطورات مفصلية مختلفة، ومُقبل على ظهور كيانات جديدة سياسية شبابية وغيرها، وفي ظل حالة الانقسام الذي يعانيه حزب نداء تونس، وتفاقم عجز أحزاب المعارضة ذات الحضور المتواضع شعبياً، يمكن القول إن اللعبة السياسية في تونس مرشحة لمزيد من التقلبات، وهو ما ستثبته الانتخابات المقبلة، أو ربما تنفيه.
* كاتب وباحث تونسي/”العربي الجديد”