آلت تطورات نزاع الصحراء بعد أربعة عقود إلى المقاربة بين نموذجين، واختار العاهل المغربي الملك محمد السادس أن يعرض تناقضاتهما على أصعدة إنسانية وسياسية واقتصادية للدلالة على واقع أزمة طال أمدها. كما حرص على أن يوجه خطابه إلى سكان المحافظات الصحراوية والأطراف الإقليمية والمجتمع الدولي من حاضرة العيون كبرى المدن الصحراوية.
في المقاربة أن السكان في المناطق الواقعة تحت سيادة المغرب، يمارسون التعبير عن إرادتهم في تدبير شؤونهم المحلية من خلال مؤسسات منتخبة، بلغت ذروة اللامركزية، عبر إقرار النظام الجهوي الموسع الذي يمنح المنتخبين المحليين صلاحيات متقدمة، أقرب إلى الحكم الذاتي وأبعد من الوصاية المركزية. فيما أشقاؤهم في مخيمات تيندوف جنوب غربي الجزائر يعيشون على المساعدات الإنسانية كلاجئين.
تبدو الصورة موغلة في الدلالة على مأساة إنسانية، فرقت بين أبناء الأسرة الواحدة. ومنذ اندلاع نزاع الصحراء تعمقت الفجوة بين الأطراف. وفي الوقت الذي أخفقت فيه جهود المفوضية السامية للاجئين في إجراء إحصاء دقيق لسكان المخيمات، على رغم قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، انبرى الملك محمد السادس لاختراق جدار الصمت حول مكونات تلك المخيمات. وقال بالحرف الواحد إن عددهم «لا يتجاوز الأربعين ألفاً على أقصى تقدير». فيما قدرت المساعدات الإنسانية من طرف الجهات المانحة بمئات الملايين من اليورو.
هل أراد الملك أن يوعز إلى الأمم المتحدة بالتفكير في طريقة أخرى لمعالجة أوضاع اللاجئين؟ الأكيد أنه حين يقول إن لا مكان في بلاده لغير الصحراويين «الأوفياء لروابط البيعة» لا يترك الباب نصف موارب، إذ يرهن الأمر بالاندماج في الوحدة، وفق مقولة :»الوطن غفور رحيم». إلا أن الأهم أنها المرة الأولى التي يحمّل فيها العاهل المغربي الجزائر مسؤولية تداعيات الأوضاع المأسوية في تيندوف.
للمزيد: في خطاب قوي الملك محمد السادس يشن هجوما على الجزائر والبوليساريو
على الصعيد السياسي، فتح العاهل المغربي أبواباً مشرعة أمام تحويل منطقة الصحراء إلى فضاء تعاون رحب بين الامتدادين المغاربي والأفريقي، من خلال النظر إلى الصحراء كمركز استقطاب اقتصادي، يكون صلة وصل بين شمال أفريقيا وامتداداتها الجنوبية. ولعل الإشارة القوية التي تضمنها مشروع ربط سكك الحديد بين طنجة في أقصى شمال المغرب على مشارف البحر المتوسط، والكويرة على الساحل الأطلسي تعاود إلى الأذهان فكرة طريق التجارة التي كان يعول على أن تمتد من طنجة إلى ساحل العاج، في فترة انتعشت فيها آمال بناء جسر استراتيجي للربط القاري بين أفريقيا وأوروبا عبر مضيق جبل طارق.
بين تكريس نظام الجهوية الموسعة، والتمسك بخطة الحكم الذاتي كأقصى ما يمكن أن يقدمه المغرب، يعاود العاهل المغربي تجديد التزامه الحل السياسي الذي أقرته الأمم المتحدة، ويضع خطوطاً حمراً أمام أي توجه لا يتماشى ومنطق آخر التنازلات، من أجل أن تنعم منطقة الشمال الأفريقي بالأمن والسلام والاستقرار. وإذ يعرض حجم مشروعات اقتصادية هائلة تشمل المواصلات وتحلية مياه البحر ونقل صلاحيات مركزية إلى اختصاص النخب المحلية في تدبير شؤون المحافظات، يكون حسم موقف بلاده إزاء حظوظ أي تسوية مقبولة وقابلة للحياة.
أربعون سنة على اندلاع نزاع الصحراء كانت كافية لإبراز حقائق ثابتة على الأرض، لعل في مقدمها أن جغرافية المنطقة لا يمكن أن تتعرض لأي تغيير. فالتعايش وأنماط التوتر ودرجات تصعيده وهبوطه تظل قائمة، على رغم المخاطر التي تهددها. وقد جربت المنطقة خلال العقود الأربعة المنصرمة كافة اختبارات الأمر الواقع ونقيضه.
استسلمت لهدير الطائرات والمدافع في الفترة الممتدة من العام 1976 إلى إقرار وقف النار ودخول خطة الأمم المتحدة حيز التنفيذ مطلع العام 1991، تدرجت الجهود من وصفة الاستفتاء إلى صيغة الحل السياسي الذي ارتضته قرارات الشرعية الدولية. ولا يزال هناك واقع إنساني وسياسي يؤرق المضاجع. إنه يشمل وجود جزء من السكان المتحدرين من أصول صحراوية خارج تراب المحافظات الصحراوية.
تلك هي المشكلة. وما عداها تفاصيل وتمارين ديبلوماسية وحقوقية.
*كاتب صحفي/”الحياة”