بقلم: ناجح إبراهيم*
هناك قضية مهمة ترددت طويلا وقصرت كثيرا فى الكتابة عنها.. وهى لماذا نجحت فصائل أو أحزاب الإسلام السياسى فى المغرب العربى مثل المغرب وتونس مقارنة بالمشرق العربى بدءا من مصر ومرورا بسوريا وليبيا والعراق، حيث الإخفاق تلو الإخفاق والكارثة تلو الأخرى.. فضلا عن الصدام والدماء والتكفير والتفجير وما يتبعه من السجون والهروب والتعذيب.
فهل فصائل الإسلام السياسى فى المغرب أذكى من أختها المشرقية؟
هل قادتها أكثر حنكة وخبرة؟ هل قربها من أوروبا وانفتاحها عليها يعد عاملا حاسما فى المسألة؟ وكيف تنجح فصائل المغرب العربى وتفشل أختها المشرقية وهى الأقدم والأكثر عددا وهى التى بدأت هذا الفكر ورسخته ثم صدرته إلى العالم الإسلامى كله شرقه ومغربه من خلال جماعة الإخوان المسلمين وهى أول جماعة أسست فى العالم الإسلامى تدعو لعودة الخلافة أو إقامة دولة إسلامية وكانت بدايتها من مصر.
للمزيد: المغرب العربي بين التطرف والاعتدال
لقد تأملت الأمر مليا فوجدت الأسباب تكمن فى الآتى:
أولا: أن فصائل الإسلام السياسى فى تونس والمغرب ليست فيها جماعات ولكنها أحزاب سياسية.. فليس لها رأسان أو عدة رءوس كما فى مصر، حيث إن كل حزب ينبثق من جماعة.. فالحرية والعدالة يتبع الإخوان والبناء والتنمية يتبع الجماعة الإسلامية.. والنور يتبع المدرسة السلفية السكندرية.. والأصالة والفضيلة يتبع مدارس سلفية قاهرية.. والحزب يمثل الوجه السياسى للجماعة.. فكل جماعة لها فرع سياسى ممثل فى الحزب وآخر اقتصادى وثالث دعوى ورابع تربوى وخامس سرى وهكذا..
وكل هذه الأفرع جميعا بما فيها الحزب لا تتحرك حركة إلا بإذن الجماعة.. وبذلك يفقد الحزب السياسى استقلاله ويذوب خطابه فى خطاب الجماعة وقيادته فى قيادة الجماعة وميزانيته فى ميزانيتها ومواقفه فى مواقفها.. وصداماته مع صداماتها ويتحول خطابه من سياسى مرن إلى دينى ثابت لا يتغير ولا يتحول.
وقد يختلط قادة الحزب فى خطابهم بين العقائدى الشرعى الثابت وبين السياسى والحزبى المتغير خلطا معيبا.. أو بين المقدس والبشرى خلطا يضر المقدس ولا يفيد الناس.. وبين مساحات عمل النقل الصحيح ومساحات العقل الذكى فى دنيا المباح الواسعة التى لا حدود لها.
ثانيا: أن فصائل الإسلام السياسى المشرقى ومنها مصر كانت تركز دوما على ثقافة البديل الإسلامى عن الواقع الجاهلى وأن فصائل الإسلام السياسى هى البديل الجاهز والجيد عن الآخرين الذين فشلوا قبل ذلك فى كل ما وعدوا به بدءا من تحرير فلسطين إلى تحقيق العدل الاجتماعى والسياسى.
وثقافة البديل هى من الإرث القطبى الذى ورثته هذه الفصائل عن كتب المرحوم سيد قطب سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.. وفكرة البديل هى فكرة تكفيرية فى أساسها تدعى فى طياتها الظاهرة أو الباطنة أن فصائل الإسلام السياسى هى فى مقام الطليعة الأولى التى ناصرت النبى «ص» ضد خصومه.. وهذا قياس فاسد وباطل.. لأن الإسلام ضارب بجذوره فى المجتمع المصرى وكل المجتمعات العربية.. حتى وإن أصاب هذه المجتمعات كثير من الفساد والمعصية.
للمزيد: هل حال تونس أفضل من حال مصر؟
وهذه الفكرة البائسة هى التى أتعبت وأنهكت وضيعت فصائل الإسلام السياسى المشرقى فى مصر وكل البلاد التى قلدتها.
أما فصائل الإسلام السياسى فى المغرب وتونس على سبيل المثال فهى لا ترى نفسها بديلا عن المجتمع ولكن تعتبر نفسها جزءا منه ولا ترى نفسها أفضله أو أحسنه.. أو أنها تملك الماء الطهور الذى ستطهر به المجتمع.. ولكنها جزء يحب الكل ويهفو إليه ويرغب فى الصلاح والإصلاح.. سواء كان قائدا له أو جنديا فيه.. لا يصطدم بدولته وإن ظلمته وقهرته وبخسته حقه تغليبا لمصالح الإسلام والأوطان العليا.
ولذلك تنازل راشد الغنوشى كثيرا وصبر طويلا ورضى عبدالإله بن كيران فى المغرب بالهزيمة الانتخابية ثم قبل المكسب فى المحليات وقبل ذلك رئاسة الوزراء فلما انتخب غيره نزل عن المنصب بسلاسة.
ثالثا: سرعة الانتقال من فقه الجماعة إلى فقه الدولة فى فصائل الإسلام السياسى المغربى وعدم انتقالها على الإطلاق فى حالة مصر والمشرق العربى.. والفرق بين فقه الجماعة وفقه الدولة كالفرق بين الجماعة والدولة.. فالجماعة تتكون من فصيل دينى واحد متجانس فكريا واجتماعيا.. والدولة قد تتكون من أديان مختلفة أو أعراق مختلفة أو مذاهب مختلفة.. فالهند فيها مئات الأديان والأعراق والمذاهب.. والعراق ولبنان وسوريا فيها عشرات الأديان والأعراق والمذاهب، فضلا عن التوجهات السياسية.. وعندما تعيش قيادة إسلامية معظم عمرها وأجمله مع تضحياتها وعلاقاتها فى الجماعة ولا تعرف إلا فقهها ورجالاتها وطريقة عملها ودعوتها ووسائلها ومنظومة إدارتها فإنه يشق عليها أن تنتقل فجأة من فقه الجماعة إلى فقه الدولة.. ومن ضيق التنظيم إلى سعة الدولة.. ومن سعة الدولة إلى رحابة الأمة.. ومن الاهتمام بمصلحة الدولة والدوران حول أهدافها إلى الانتقال منها إلى مصالح الأمة العربية والإسلامية مثلا ثم فيوضات الاهتمام بالإنسان ورعايته.. كل الإنسان وأى إنسان.. وهو الذى اهتم به ورعاه القرآن والإسلام.. فكل آيات القرآن إما جاءت تخاطب الإنسان أو تتحدث عن الإنسان.. وهو محور الكون كله الذى سخره الله له ليعبده ويعمره.. وكل التكريم ينصب عليه.. «ولقد كرمنا بنى آدم» فكل بنى آدم مكرم سواء كان فى جماعتك أم لم يكن.. سواء كان فى صفك السياسى أم لم يكن، سواء كان على دينك أم على دين آخر فحساب ذلك عند الله.. وسواء أحبك أم قلاك، سواء كان مع النظام أم كان معارضا له.
وكلما سمت نفس المسلم ارتفعت من الدوران حول الجماعة والتنظيم أو حتى الدولة أو الأمة أو المذهب أو الملة إلى سماء إسعاد الإنسانية جمعاء.. والعيش فى أخلاق الربوبية.. فالرب يرزق من أطاعه ومن عصاه.. ومن شكره أو جحده.. أو آمن به أو كفر به.. والأب والأم يأخذون الكثير من أخلاق الربوبية.. والدعاة الصادقون يتخلقون بذلك.
إن مصيبة الفصائل الإسلامية المصرية والمشرقية ومعظم المصريين هو الدوران تارة حول جماعاتهم أو فضائلهم أو أحزابهم أو حتى دولهم دون أن تجدا الكثير منهم يدور حول إسعاد الناس جميعا.
أما فصائل الإسلام السياسى فى المغرب وتونس فلعلها تدور حول وطنها أكثر من جماعاتها.. وحول شعبها أكثر من أحزابها.. وتعتبر نفسها خادمة لشعبها لا مطهرة له من الرجس ومنقذة له من النجاسة أو متعاملة باستعلاء معه قبل أن تصل إلى الحكم وبعده كذلك. وللحديث بقية إن شاء الله.
*مفكر وداعية إسلامي/”بوابة الشروق”