بقلم: محمد بوخزار
يرسل النظام السياسي الاسباني (ملكية برلمانية) مع كل أزمة تعترضه، إشارات توحي بأنه ربما استنفد جل الاغراض التي أوجد من اجلها؛ وبالتالي اوشكت مدة صلاحيته على الانتهاء، بعد ان استمرت قرابة اربعة عقود منذ الاستفتاء الشعبي بالمصادقة على الدستور الحالي عام 1978 الأمر الذي يستوجب من وجهة نظر فاعلين سياسيين ومدنيين كثيرين، مراجعة الوثيقة الاسمى بغاية إرساء هندسة بديلة لنظام ما بعد الانتقال الديمقراطي؛ ذلك الذي تبلورت ملامحه الكبرى خلال المشاورات السياسية الواسعة التي اشرف عليها الملك، خوان كارلوس، ورئيس الوزراء الراحل “ادولفو سواريث “وأسفرت عن ما صار يدعى في الادبيات السياسية الاسبانية بـ “أوفاق لا منكلوا)” باسم قصر رئاسة الحكومة.
وبطبيعة الحال،لا تحبذ، كل الاحزاب ألسياسية تعديل الدستور،كونه وفق رؤيتها وتحليلها،غير مناسب للظرف السياسي الذي تمر به البلاد. في طليعة أولائك “الحزب الشعبي” الذي يحكم البلاد منذ عام 2011 الى غاية شهر ديسمبر المقبل، موعد الانتخابات التشريعية . يرى”الشعبي” في الخطوة فوضى محتملة يمكن أن تؤثر على وحدة البلاد ! ما دامت حدود التعديل غير واضحة وليس عليها إجماع.
حجة الحزب اليميني ومعه مؤيدون، ان دستور 1978 وثيقة استثنائية بامتياز،يصعب تكرار مثيلة لها؛فهي خلاصة توافق وتراضي تاريخي واسع. صاغها،بعلمهم الغزير وخبرتهم القانونية والأكاديمية من يسمون “أباء الدستور” . استوعبوا، قبل الانكباب على تحرير الوثيقة وأثناءها، طموحات وتطلعات الشعب الاسباني الخارج من ظلام وأغلال ديكتاتورية “الجنرال فرانكو” الراغب بقوة في طي صفحة الحرب الاهلية المقيتة .الفقهاء الدستوريون الإسبان حللوا خطابات ومطالب الاحزاب السياسية، وعرضوا عليها في النهاية وثيقة صار المثل يضرب بها لعقود من الزمن ، كونها مثلت الأرضية القانونية المتوازنة لنقل إسبانيا بسلاسة من الديكتاتورية المظلمة الى فضاء الملكية البرلمانية.
للمزيد:اسبانيا بين المخرج الدستوري وعواقب أزمة كاتالونيا
ويعتقد المعترضون، انه يصعب في الظروف الحالية استعادة اجواء ذلك التوافق التاريخي والفريد وبعث نفس الامال القوية التي اجتاحت شرائح عرضة من المجتمع الاسباني، وهو يعيش لحظات الزخم الثوري في منتصف سبعينيات القرن الماضي،مقاوما هاجس الخوف من عودة الديكتاتورية التي ستثبت الأحداث اللاحقة انها كانت بالمرصاد تتحين الفرصة الملائمة (تمرد العقيد تيخيرو واقتحامه مبنى البرمان وهو في حالة انعقاد).
التفاؤل الشعبي بالعهد الجديد،والالتفاف حول شخص الملك، خوان كارلوس، الذي قرر طواعية التخلي عن الارث السيء الذي تركه أمانة ثقيلة في عنقه، الديكتاتور السابق،إضافة الى براغماتية الاحزاب السياسية وبعد نظرها وتغليبها المصلحة العليا وخاصة الحزبين الاشتراكي والشيوعي،وقبولهما الالتقاء مع القوى اليمينية حول الحد الأدنى من الارضية المشتركة لتشييد الصرح الديمقراطي الملائم للبلاد.
تلك اجواء اختفت بانقضاء زمانها وسياقاتها وأبطالها والفاعلين الذين صنعوها.
ترى الطائفة المنادية بالمراجعة والتعديل،ان القانون الاسمى لأي بلد ،ليس كتابا مقدسا، بل له عمر افتراضي،لا ينبغي تجاوزه، لذا وجب إخضاعه بين الفترة والأخرى للمراجعة، ليظل مواكبا للمستجدات الحاصلة في المجتمع على الاصعدة الاجتماعية والثقافية ومنظومة القيم؛ فالثورة التكنولوجية والعولمة، على سبيل المثال ، تفرض على المجتمعات الديمقراطية، إعادة النظر في اساليب الحكم ومفهوم السلطة والتنظيم المجدد للعلاقة بين أفرعها.
ويستدل انصار الطرح الاخير بتداعيات الأزمة السياسية التي أفرزها الوضع غير المسبوق في اقليم كاتالونيا المتجلي حيث برزت قوى سياسية ،ذات رؤية وأجندات مخالفة لقناعات وبرامج الاحزاب التقليدية،تلك التي اعتادت العمل وفق نظام برلماني تحكمه القطبية الثنائية التي تيسر حصول أحد الحزبين على اغلبية مطلقة أو نسبية تمكن احديهما من حكم البلاد بمفرده او بشراكة مع الاحزاب الاقليمية الصغرى ،ضامنة جهازا تنفيذيا مستقرا يستمد قوته ومشروعيته من تمثيل شعبي مماثل في البرلمان ” الكونغريسو” بغرفتيه.
إن الصراعات والتفاعلات الجارية في إقليم كاتالونيا، بين الحكومة ومؤيدي وحدة البلاد من جهة، وبين دعاة الانفصال وقيام جمهورية في ذلك الاقليم الزاخر بالخيرات والسواعد العاملة؛ هي (الصراعات) التي وضعت على طاولة النقاش مسألة التعديل الدستوري، كوسيلة ممكنة لاحتواء الازمة الناشبة في الاقليم وإيجاد مخرج لها،مع العلم ان الانفصاليين المتشددين،يرفضون آلية التعديل ولا يرضون عن الاستقلال التام بديلا؛لأنهم حرروا دستور دولتهم المأمولة ولا ينتظرون إلا لحظة اعلانها للدعوة للاستفتاء عليه. كل الترتيبات جاهزة للخطوة الانفصالية.
إن شعار الاستقلال الذي ترفعه الاحزاب الانفصالية، يقوى حجة المعارضين لمراجعة الدستور في ظل مناخ سياسي متأزم،بسبب استحالة التفاوض معها على ما ينبغي وما لا يجوز تعديله في المتن الدستوري، فقد مضت بعيدا في الاتجاه المعاكس.
تتموقع بين الطرفين المتعارضين، فئات من الليبراليين والمثقفين وناشطين في المجتمع المدني، يتمنون ان يرسخ التعديل الدستوري، إذا كان له موجب، “نظام الفدرالية “وإرساء أسس جديدة لتنظيم العلاقة بين مدريد والجهات الاسبانية . لكن هل سيرضي إحياء التفاوض مطالب القوميات المتشددة (الكاتلانية والباسكية) اللتين ترفعان راية التفرد والخصوصيات التاريخية غير القابلة للاندماج؟
في هذا الخضم الصاخب،تكتسي استحقاقات ديسمبر المقبل، أهمية كبرى، وطبيعة الخريطة الحزبية التي ستتولد عنها.فإذا فاز الحزب الشعبي، بالمرتبة الاولى كما تتوقع بعض ألاستطلاعات وليس الاغلبية المطلقة، فسيتعقد الموقف اكثر وقد يضاعف الحزب من درجة مقاومته للتعديل في حين يراه ضروريا كل من الحزب الاشتراكي والحزبين الجديدين “ثيودادانوس” و”بوديموس” رغم وجود تباين بين التنظيمات الثلاثة بخصوص الهندسة الدستورية الجديدة ، ما من شانه ان يعرقل التعديل وإرجائه الى اجل غير مسمى، ريثما تنضج ظروفه ويحدث التوافق المطلوب بين الاطراف الراغبة والمعترضة، ما دامت صياغة وثيقة دستورية جديدة تنال رضى كل الاطراف هدفا متعذرا في الظرف الراهن، لعدة أسباب بينها المشكل الكاتالاني والباسكي الذي يراقب ما ستسفر عنه المواجهة في الساحة الأولى.
وتواجه الحكومة الحالية، فيما تبقى لها من ايام، الانفصاليين في كاتالونيا، بتطبيق بنود الدستورالحالي الذي ايده سياسيون مثلوا الاقليم ، ولذلك فإن حكومة الحزب الشعبي،متشبثة به، إذ يمنحها صلاحيات قد تتقلص في الوثيقة البديلة، لذلك تعطي الأسبقية لحل المشاكل العويصة ولو ادى ذلك الى التلويح باستعمال القوة لردع التوجهات الانفصالية ؛ولقوات المسلحة ملزمة بتنفيذ اوامر السلطة التنفيذية باعتبارها المعبرة عن ارادة الشعب.
ولا احد يتمنى هذا السيناريو المخيف،فإسبانيا تجربة ديمقراطية فتية، عضو في الاتحاد الأوروبي، وانتماؤها له يفرض عليها استنفاد كل الحلول السلمية ولتأخذ من الوقت ما يكفي.
غيران ما تخشاه البلاد حقا هو التنظيمات المتطرفة، ليس في الاقاليم والجهات التي تتباهى بخصوصياتها وإنما وسط التشكيلات الفوضوية المبثوثة، المعادية بطبيعتها للنظام والمؤسسات.بعضها افصح عن وجهه في، كاتالونيا، والبعض الاخر ،يظهر ويختفي في حزب، بوديموس، الذي يجمع تحت خيامه اشتاتا من اليسار المتطرف العدمي والفوضوي وحماة البيئة والرافضين والمصدومين في الحزب الاشتراكي العمالي.
هذه التجربة المرة التي تمر بها اسبانيا، افرزت معطى ايجابيا، يتمثل في ان الخلاف يدور في وسائل الاعلام وليس تحت اسنة الرماح.
هذا واقع يدعو الى التفاؤل بانتصار الخيار افضل واستعادة أجواء منتصف السبعينات، في طبعة جديدة مزيدة ومنقحة.