بقلم: صلاح الدين الجورشي*
هناك ألف سبب يجعلك تصاب بالإحباط، عندما تتأمل في أوضاع العالم العربي، لكنك في المقابل تدرك أن هذه الأمة لم تخرج نهائياً من التاريخ. ففي اللحظة التي يبدو لك أنها فقدت قدرتها على الفعل، تفاجئك الأحداث أن الجسم لا يزال ينبض بالحياة، وأنه قادرٌ، أيضاً، على أن يصنع التاريخ من جديد.
قبل 17 ديسمبر/كانون أول 2010، لم يكن أحد يتوقع حدثاً ضخماً ستشهده هذه المنطقة التي يحلو للأميركيين تسميتها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حتى عندما احترق محمد بوعزيزي في قلب مدينة سيدي بوزيد، لم يتوقع أحد أن ذلك سيشكل بداية حاسمة لتغيير المشهد السياسي داخل تونس، وفي أركان هذه المنطقة التي كانت مشلولة بدون أمل جدي، أو حتى كاذب، في احتمال تغيير أوضاعها. وفجأة حدث ما لم يكن متوقعاً.
للمزيد: أشعلها البوعزيزي.. فمن يطفئها؟
اليوم، وبعد أن تكسّر الحراك الثوري، وابتلعته عوامل عديدة، وحاصرته المؤامرات والمناورات وأخطاء الثوريين وهشاشة النخب البديلة، عادت مشاعر الإحباط تخيم على مختلف الأجواء والساحات، حتى بدا لكثيرين وكأن هذه المنطقة استسلمت من جديد، وعادت إلى بيت الطاعة. في هذه اللحظة المخيفة، يحصل حدثان على غاية من الأهمية الرمزية:
الأول حصول تونس على جائزة نوبل للسلام التي ستقدم يوم 10 ديسمبر المقبل لممثلي المنظمات الأربعة التي نجحت في إدارة الحوار الوطني الذي أنقذ التونسيين من حرب أهلية كانت محتملة. وبعد أن ابتعدت وسائل الإعلام عن التجربة التونسية، فلا تذكرها إلا عندما تقع عملية إرهابية، يذهب ضحيتها مواطنون غربيون، عادت تونس لتحتل موقعاً متقدماً في المشهد الدولي، وبذلك تعود الثقة في إمكانية نجاح التونسيين في توجههم نحو بناء نظام ديمقراطي حقيقي.
للمزيد:نوبل تتوج التونسيين
الحدث الثاني الكبير الذي أخذ يفرض نفسه تصاعدياً، اندلاع الانتفاضة الثالثة في فلسطين. وهي انتفاضة لم تخطط لها النخب الفلسطينية المريضة والتائهة، ولم يصدر قرار سياسي بتفجيرها، وإنما أطلقها شباب تجاوزوا التنظيمات، ولم يعد مستعداً أن يتحمل مزيداً من الغطرسة الإسرائيلية، كما أنه سحب ثقته من محترفي السياسة الذين فقدوا القدرة على إخراج القضية من الدائرة المغلقة التي تردّت فيها منذ سنوات طويلة.
كما حدث في تونس، يحدث أيضاً هذه الأيام في فلسطين. الشباب هم حملة المشعل في لحظات اليأس. وحدهم الذين يتمكنون من تغيير القواعد القاتلة للعبة الظلم والاحتلال. هم شعلة المستقبل، ولذلك هم الذين يصنعون المستقبل بتهرئة إرادة العدو. وما يفعله الشباب الفلسطيني الآن، ذكوراً وإناثاً، ليس سوى جزء صغير من قوةٍ كامنة، لو انفجرت بجميع مكوناتها لغيرت معطيات كثيرة على الأرض، ولقلبت المشهد الفلسطيني والعربي رأساً على عقب. فهذا الشباب الأعزل هو خميرة الإرادة المنبثقة من عمق المأساة والتحدّي، في مواجهة غطرسة شباب إسرائيلي يحتمي بالسلاح، وبكمية هائلة من الحقد والرغبة في اختلاس الأرض والزرع والماء والهواء والحب والأمان من ملايين الضحايا.
ما يجري في فلسطين إثباب جديد على أن القضية لم تمت ولن تموت، على الرغم من تفاقم اختلال موازين القوى، فالعدالة لا تقاس بعدد الجنود وكميات السلاح، بقدر ما تقاس بالشرعية وبحجم إرادة الحياة. وإذ نجح الإسرائيليون في التوسع وبناء المستوطنات، فإنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في اغتيال الإيمان لدى الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين بأن الأرض أرضهم، وأن الحق والشرعية إلى جانبهم.
للمزيد:فرصة لوقف تهميش القضية الفلسطينية
ملاحظتان: أولاً، متى يدرك الشباب الذي يحترق في سورية والعراق ودول عربية أخرى أن المعركة ليست هناك، وأن العدو الصهيوني يستفيد، يومياً، من المحرقة التي أوقدوها في غير محلها. ثانياً، حذار من أن يستعيد السياسيون الفلسطينيون المبادرة، فيسيئون استثمار هذه الانتفاضة الشبابية، ليعيدوا إنتاج منظومة ثبت فشلها، وهو ما يحاول بعضهم القيام به في تونس، ويجب ألا يتكرر في فلسطين.
*كاتب من تونس/”العربي الجديد”