بقلم: حسّونة المصباحي*
يمكن اعتبار يوم الجمعة الموافق للتاسع من أكتوبر (تشرين الأول)2015 يوما تاريخيّا بالنسبة لتونس. لذا يحقّ له أن يظلّ راسخا في الذاكرة الوطنيّة لأمد طويل. فقد منحت الأكاديمية النرويجيّة الرباعي للحوار الوطني الذي انطلق في صيف 2013 عقب اغتيال المناضل محمد البراهمي برعاية كل من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد الوطني للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنيّة للمحامين، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان.
وجاء الإعلان عن الجائزة المذكورة ليخفّف من وطأة احتقان سياسي تعيشه تونس مجددا بسبب خلافات حادة بين قيادات الحزب الحاكم، حزب نداء تونس، وبسبب تهديدات أطلقتها بعض النقابات لشنّ المزيد من الاضرابات التي سوف تعمّق الأزمات الخانقة التي يتخبّط فيها الاقتصاد منذ سنوات عدةّ.
للمزيد:«نوبل للسلام» مفاجأة ساّرة للّتونسيين!
وقبل يوم واحد من تتويجها بالجائزة العالمية للسلام، عاشت تونس حدثا مأساويا مريعا تمثل في محاولة اغتيال رضا شرف الدين، ممثل حزب نداء تونس في مدينة سوسة الساحليّة، والنائب في مجلس الشعب.
وهو حدث اعتبره المحللون السياسيّون مؤشرا خطيرا ينذر بموجة عنف أخرى قد تعمّق الشروخ بين الأحزاب السياسية، وتعصف بالاستقرار الهش الذي تعيشه البلاد بعد حادثتي باردو وسوسة الإرهابيتين. لذا نزل الخبر السعيد على التونسيين وكأنه الغيث بعد قحط مديد!
علينا أن نعود الى الوراء، وتحديدا الى صيف عام 2013 لكي ندرك جيّدا أهمّية الدور الذي لعبه الرباعي بهدف حلحلة الأزمة السياسية المخيفة التي كانت تعيشها تونس في ذلك الوقت.
ففي الخامس والعشرين من شهر يوليو (تموز)، وهو يوم الاحتفال بالذكرى 55 لقيام النظام الجمهوري، اغتيل المناضل القومي محمد البراهمي أمام بيته بالعاصمة تونس من قبل مجهولين.
وقبل ذلك بأشهر، وتحديدا في السادس من فبراير (شباط) قام مجهولون بقتل المناضل اليساري شكري بلعيد. وفي العديد من المناطق، كانت الحركات الاحتجاجيّة تزداد حدّة يوما بعد آخر بسبب السياسات الظالمة والعشوائية التي كانت تنتهجها حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة.
من ذلك مثلا أن سكان مدينة سليانة الواقعة بالشمال الغربي للبلاد هجروا مدينتهم احتجاجا على إصابة العديد من أبنائهم بالعمى بسبب الرصاص الإنشطاري الذي استعملته قوات الأمن أثناء التظاهرات.
وكان اغتيال البراهمي بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. فقد بلغ الغضب الشعبي قمته، وباتت العاصمة تشهد يوميا تظاهرات عارمة ضد حكومة الترويكا، وضد حركة النهضة تحديدا. ولم يكن المتظاهرون يترددون في اتهام هذه الحركة بالضلوع في الإرهاب، وفي تحميلها مسؤولية تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية. بل وحمّلوها أيضا مسؤولية تشويه صورة تونس على المستوى الخارجي.
وردّ قادة النهضة على هذه الاتهامات بالمزيد من التصلب معلنين على لسان رئيس الحكومة السيد علي العريض، وهو من جناح الصقور، أن الحكومة لن تستقيل! معبرا عن مساندته المطلقة لحكومة الترويكا.
من جهته، قال الصحبي عتيق، الذي كان آنذاك نائبا عن النهضة في المجلس التأسيسي المكلف إعداد دستور جديد أمام انصاره خلال تظاهرة نظمت في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، إنه يتحتم على حركة النهضة أن “تدوس بالأقدام” المتظاهرين والمحتجين، مضيفا بذلك المزيد من الزيت على النيران المشتعلة أصلا.
وخاطب نور الدين البحيري، وزير العدل آنذاك شباب النهضة قائلا: “هم عندهم (يقصد المعارضون لحركة النهضة) الشرطة والجيش، ونحن عندنا الآف من الانتحاريين!”. وقد ازدادت الأوضاع تعفنا وتعكرا بعد أن دخلت “لجان حماية الثورة” المساندة للنهضة ولحزب المؤتمر الذي يترأسه محمد المنصف المرزوقي على الخط الأحمر، مقترفة سلسلة من أعمال العنف في العاصمة، وفي العديد من المدن الاخرى.
وأما راشد الغنوشي (رئيس حركة النهضة) فقد لجأ كعادته الى الخطاب المزدوج. فأمام أنصاره كان يدعو الى المزيد من التصلب في مواجهة الخصوم لكن في الجلسات الخاصة كان يخفف من حدة خطابه مظهرا شيئا من اللين والاعتدال.
وكان من الطبيعي أن يعمّ الخوف البلاد من أقصاها الى أدناها، وأن يزداد التونسيون شعورا بأن بلادهم تسير بخطى حثيثة نحو الهاوية، وأن العنف لن يلبث ان يكون سيّد الموقف. لكن فجأة، ظهرت في الأفق بعض علامات الانفراج. فقد تحدى الغنوشي صقور حركته، وانطلق الى باريس ليعقد جلسة مطولة مع الباجي قائد السبسي، زعيم نداء تونس.
ويمكن القول إن تلك الجلسة هي التي كانت ممهدة للحوار الوطني الذي أدى في النهاية، ورغم المصاعب الكأداء التي واجهته إلى انفراج جنّب البلاد مخاطر جسيمة قد تكون متمثلة في حرب أهلية مدمرة. وعلينا أن نشير الى أن الحوار متأصل في التاريخ التونسي المعاصر، وإليه لجأت النخب السياسية في كل الفترات التي أوشكت فيها البلاد على السقوط في مهاوي العنف والتطرف.
والأمثلة على هذا كثيرة سواء خلال مرحلة النضال الوطني من أجل الاستقلال، أو بعدها. يبقى أن نقول إن الخاسرين الكبار في تكريم تونس بجائزة السلام هم جميع الذين رفضوا الحوار الوطني الذي انتظم في صيف عام 2013، أعني بذلك حزب المؤتمر الذي يتزعمه المنصف المرزوقي، والبعض من الأطراف اليسارية المتطرفة، ورئيسة ما يسمى بـ”هيئة الحقيقة والكرامة” سهام بن سدرين التي لا تزال تدعو الى سلوك سياسة انتقامية، وتعمل على ضرب وتخريب كل المحاولات التي تهدف الى قيام مصالحة وطنية لطيّ صفحة الماضي، والانطلاق بتونس الى مستقبل أفضل تتضافر فيه جهود الجميع من أجل بناء ديمقراطية حقيقية تعيد الأمل لكلّ من مثل “الربيع العربي” بالنسبة لهم خيبة مؤلمة!
بقي أن نشير في النهاية الى أن أهم ما ينتظره التونسيون من جائزة السلام العالمية هو أن يكفّ الفرقاء من جميع التوجهات السياسية والإيديولوجية عن التطاحن، وعن نصب الفخاخ لبعضهم بعضا لكي تستعيد تونس عافيتها في ظلّ مصالحة وطنية خالية من الضغائن والأحقاد.
*كاتب تونسي/مجلة “الخليج”