خلال مرحلة الانتقال الديموقراطي في تونس، المستمرة منذ خمس سنوات، اشتد التناقض بين القوى السياسية التي تتبنى الحداثة بكل منطوياتها الفكرية والسياسية والثقافية، و حركة «النهضة» في مسائل الديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحقوق المرأة وتطبيق الحدود، وبعض أوجه ممارسة حقوق المواطنة ورؤية الإسلام السياسي إلى الديموقراطية وتعدد الاجتهادات داخل قيادات الحركة.
وفي مقابلة أجرتها صحيفة «الشروق» التونسية مع زعيم حركة «النهضة» في كانون الثاني الماضي، لم يعط الشيخ راشد الغنوشي الذي يتميز بحضوره الفكري والسياسي التاريخي في الحركات الإسلامية العربية جوابًا شافيًا وتاريخيًا بصدد إمكانية تحول «النهضة» إلى حزب مدني، مع ما يتطلبه ذلك من فصل بين المجالين السياسي والديني، باعتباره الإشكال الرئيس الذي سيواجهه المؤتمر العاشر للحركة، الذي سيعقد خلال هذه السنة. فقد أقرّ الغنوشي في هذه المقابلة بطريقة غير مباشرة بأنّه لم يتمّ إلى الآن الفصل بين المجالين السياسي والديني، أي بلغة أخرى بين الحزبي والمسجدي. واقراره يتجلّى في اعترافه بالرغبة في التمييز بينهما «فالنهضة لم تعد حزبا صغيرا بل صارت حزبا كبيراً، والابرز الآن في النهضة هو الجانب السياسي، ففي كل اجتماعات المكتب التنفيذي كانت السياسة تفرضُ نفسها ونحن تركنا الجوانب الاخرى» على حدّ قوله. بل ويذهب الى أكثر من ذلك ليرفض الفصل بين المجالين ويصر على التمييز، وهو مصطلح يأتي بين الوصل والفصل، فهو مصطلحٌ حَمَّالُ غموضٍ ولا يخلو من المناورة. إذاً الغنوشي لا يقرّ بالفصل بل يتحدّث عن التمايز، فيكون بذلك الدعوي هو الجناح الايديولوجي للسياسي. هكذا يُبْقِي الغنوشي حزب «النهضة» الإسلامي في وضعية «شبه مدني وشبه ديني»، متجنبًا بذلك خوض معركة الإصلاح الديني داخل حزبه، وبالتالي تجسيد القطيعة الإيبستيمولوجية الفلسفية والسياسية مع أيديولوجية «الإخوان المسلمين» التي تعارض فيها العلمانية بالإسلام، والعلم بالدين، والحداثة بالأصالة، والمستقبل بالماضي، والديموقراطية بالشورى. وينتاب العلمانيين الشكُ بسبب الموقف «الوصولي» للإسلاميين من الديموقراطية ونظرتهم الأداتية لها، التي تجردها من مضمونها الثقافي وتحولها إلى مجرد آليات للوصول إلى السلطة، وإضمارهم النية بالانقضاض عليها بعد اعتلاء السلطة، والعودة بالحياة السياسية إلى نفق العلاقة التلازمية بين الدين والدولة. علماً أن حزب «النهضة» لا يزال يتعاطى مع الديموقراطية بوصفها «صندوق اقتراع» فحسب، لا كفلسفة فكرية وثقافية وسياسية، طرحها العصر الحديث ومستوى التطور الذي وصلت إليه البشرية منذ عصر النهضة الأوروبية حتى يومنا هذا. يبقى أن العلمانية المفهومة فهماً جدلياً صحيحاً هي المدخل الضروري تاريخياً لارتقاء سديم بشري من مستوى الانتماءات ما قبل القومية: العائلية، والعشائرية، والمذهبية، والدينية، والأقوامية، إلى مستوى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في ظل سيادة الشعب، وسيادة القانون. والعلمانية بهذا الفهم، هي المدخل الحقيقي إلى بناء المواطنية الحقة، وبناء الدولة الديموقراطية الحديثة التعددية، دولة الحق والقانون التي يستقل فيها الدين عن الدولة والدولة عن الدين. ولا يزال حزب «النهضة» الإسلامي متذبذباً لجهة تبنيه فكرة «الإسلام الليبرالي»، التي تؤمن بالمواءمة بينها وبين الديموقراطية، حيث كانت الديموقراطية تُعَدُّ بدعة غربية في المرجعية الإسلامية، وعلى أساس أن الإسلام ـ في زعم معظم الحركات الإسلامية على اختلاف مسمياتها ـ لا يعرف سوى نظام الشورى.
إقرأ أيضا: لماذا عزف الغنوشي عن استثمار أزمة تونس؟
وتعد تونس البلد العربي الوحيد الذي يمرّ بعملية انتقال ديموقراطي ناجحة. لكن هذا الأمر مرهون أيضاً بإعادة بناء الدولة الوطنية الديموقراطية، وإعطاء بُعد راديكالي لمضمون هذه الديموقراطية الناشئة، من خلال المسائل التالية:
أولا: أن تقوم حركة «النهضة» بمراجعة نقدية وجذرية لمرجعيتها الأيديولوجية في مؤتمرها العاشر المقبل، لجهة التحرّر كليا من الوثيقة – العقدة، التي تحمل العنوان التالي: «الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الإسلامي»، التي تم تبنيها في المؤتمر التأسيسي للحركة في 6 حزيران 1981، والتي يعتبرها الجميع دستور حركة «النهضة» إلى يومنا هذا. وهي وثيقة مهمة جداً، لا تفرق بين التوجه لله بالشعائر والتلقي منه في الشرائع، لأن الانحراف عن أي منهما يخرج صاحبه من الإيمان والإسلام قطعا.
ثانيا: أن تقوم الحركة بالفصل بين المجالين السياسي والديني، كما ينص على ذلك القانون والدستور في تونس، وليس التمايز بين المجالين كما جاء في حديث الغنوشي، حتى تستطيع أن تتحول إلى حزب مدني يعمل تحت سقف قيم الجمهورية العلمانية، ويقرّ باحترام حرية العقيدة، وحرية الممارسة الدينية أو عدمها، أي حرية اللاتديّن. فالأمر يتصل هنا بحرية الضمير التي لا يكون لحرية التعبير معنىً من دونها.
ثالثاً: إن المتمسكين ببناء دولة وطنية ديموقراطية تعددية في تونس، وفي عموم العالم العربي، يرون أن هذا هو جوهر الموضوع، لأنّ الديني هو مجال المقدّس المتعالي البعيد عن التغيّر، في حين السياسي هو مجال البدء والانتهاء والتغيير، وبالتالي مجال التاريخ، في حين لا يعترف المقدّس بالتغيير لأنّه لا يستمدّ حركته إلاّ ممن هو فوق التاريخ.
كاتب وباحث سياسي/”السفير”