بقلم: هيثم شلبي
خلال حفل أدائه للقسم، وبعد أن “اجتر” الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أرقام “إنجازاته” المزعومة خلال ولايته الأولى، وتعهد بمضاعفة هذه الأرقام خلال عهدته الثانية، أطلق دعوة مفاجئة “لحوار وطني” من أجل تعزيز المكاسب الديمقراطية حسب وصفه.
دعوة سرعان ما بدأت أحزاب الأغلبية في “التطبيل” لها، مع وضع بعض الأحزاب الصغيرة في المعارضة ما أسمته “اشتراطات” من أجل المشاركة فيها، بينما تكفل إعلام النظام بالتعامل مع هذا الحوار -كما يتعامل مع أرقام تبون الاقتصادية المستقبلية- على أنه قام فعلا، ونجح، ولم يبق سوى الإعلان عن مخرجاته! لكن يتساءل الرأي العام الجزائري، ونحن معه: هل يملك النظام القدرة والرغبة والأهلية والمشروعية لتنظيم ما يمكن تسميته “حوار وطني”؟ وهل هناك أي فرصة لنجاحه في “تعزيز الديمقراطية الحقيقية” في الجزائر؟!
ولنبدأ باللغة، فحتى نسمى ما تدعو إليه السلطة “حوارا”، يجب توفر بعض المواصفات، وهو الأمر الذي ينطبق على مصطلح “وطني”!
فالحوار يستدعي غياب أي إملاءات من أي طرف يجلس حول طاولته، لا فيما يخص مواضيعه؛ الآراء المعبر عنها خلاله؛ خطوطه الحمر؛ ولا الخلاصات التي يمكن أن يصل إليها، فهل السلطة الجزائرية المحكومة من الجنرالات كانت في يوم من الأيام مستعدة لمثل هكذا حوار، بمثل هذه المواصفات، حتى نثق باستعدادها ونواياها هذه المرة؟!
ثم كيف نثق بأن الحوار سيكون حرا ومفتوحا، في بلد يمنع نواب الشعب فيه، بالقانون -في سابقة على مستوى العالم- من مناقشة أي أمر يخص الشؤون الخارجية أو العسكرية للجزائر؟! فهل سلطة الحاضرين للحوار أكبر من سلطة نواب الشعب الممنوعون من مناقشة سياسة تبون الخارجية، وشؤون شنقريحة ومهنا العسكرية؟!
وعلى نفس المنوال، وحتى نطلق على ما يتحدث عنه النظام أنه “وطني” فإنه يفترض تمثيلية سقفها الوطن، وليس الموالاة والمعارضة، تشمل الأحزاب المحظورة كجبهة الإنقاذ؛ وهيئات المجتمع المدني وعلى رأسها الحقوقي منها؛ وناشطي الحراك الشعبي، بعد أن يطلق سراح معظمهم من السجون! فهل النظام وجنرالاته، مدنيين وعسكريين، مستعدون للجلوس مع هذه الأطراف؟! لاسيما مع عدم إمكانية نزع صفة “الوطنية” عنها.
وعلى فرض أن إجابة الاشتراطات السابقة كانت بنعم، هل يمكن تصور أن يكون مسموحا لأطراف الحوار بالتحكم في أجندة الحوار ومواضيعه؟ بمعنى آخر، هل يملك أي طرف جالس حول الطاولة، طرح أي موضوع يريد على أجندة الحوار، إذا كانت تؤثر سلبا أو إيجابا على مستقبل الجزائر ورفاه مواطنيه؟!
ولإعطاء أمثلة على ما يعتبره النظام العسكري الجزائري من المحرمات منذ عقود: هل يمكن طرح موضوع إغلاق الحدود مع المغرب، وآثاره الاجتماعية والاقتصادية على الجزائريين، ومبررات استمراره أزيد من ثلاثة عقود؟! وبالمثل، هل يمكن طرح الدواعي الحقيقية لاستمرار دعم عصابة انفصالية مسلحة كالبوليساريو، وتمويلها من الميزانية العمومية بالمليارات طيلة خمسة عقود؟! هل يمكن تصور طرح مستقبل دور الجيش والمخابرات في الحياة السياسية الجزائرية؟! هل يسمح بنقاش أسباب التوتر الدائم بين منطقة القبايل وأهلها، والنظام الحاكم في الجزائر طيلة عقود الاستقلال؟! وإذا كانت الإجابة على الأسئلة المنطقية -والمشروعة- السابقة هي لا، فكيف يمكن أن نسمي ما سيجري “حوارا وطنيا”، مع غياب القضايا “الوطنية” المذكورة عن أجندته!
لكن، إذا كان ما تدعو إليه السلطة العسكرية الحاكمة، على لسان الرئيس تبون، أقل من أن يشكل “حوارا”، وأبعد من أن يكون “وطنيا”، فما الداعي إليه؟! هل يستشعر النظام خطرا ما يجعله محتاجا لهذه “المسرحية”، ام أنها محاولة لإلهاء الرأي العام، وحرف انتباهه عن أشياء أخرى تجري في الجزائر؟
الإجابة الأولية هي مزيج من الأمرين، مع غلبة نسبية للسبب الأخير، كيف ذلك؟ لقد ساهمت صراعات أجنحة النظام الثلاثة (الجيش والمخابرات والرئاسة) في إضعاف النظام برمته، وهو ما يزيد حاجتهم إلى تنظيم “حفلة” باذخة متحكم في مدخلاتها ومخرجاتها، تضفي بعض المساحيق التجميلية على وجه النظام المتهالك، علها تخفي التعب الظاهر في ملامحه، وتمنحه بعض الحيوية التي يفتقدها شيوخه الثمانينيون الممسكون بتلابيبه منذ الاستقلال.
وبنفس الوقت، فمن شأن زيادة البهرجة والصخب المحيط بما سيسمونه “حوارا وطنيا” أن يحرف انتباه الرأي العام الجزائري، عن متابعة الصراعات “الدموية”، المرشحة لتصاعد حدتها خلال مقبل الأيام، على أمل التوصل إلى نصر حاسم مستحيل لأحدها على البقية، أو التأسيس لتسوية “مستحيلة” بينها، تتيح بعض “التشبيب” في صفوف مسؤولي هذه الأجنحة، بطريقة يمكنها “تمديد” عمر النظام، وفك الارتباط بين عمره الافتراضي، وعمر جنرالاته الشيوخ الكهلة!!
عليه، وكخلاصة أولية، فإن مشاكل النظام العسكري في الجزائر هيكلية، ذات طابع تراكمي (منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا)، لا يمكن تصور إيجاد حلول لها، لا ذاتيا (بسبب طبيعة جنرالاته) ولا موضوعيا (بسبب تجذر الفساد في جميع مفاصل الدولة).
وعليه، لا يمكن لأي حوار وطني أن يقود إلى مجرد تخفيف أزمات النظام، ناهيك عن حلها، لأنه (أي الحوار) سيصطدم بجملة من المحرمات والخطوط الحمر، عنوانها الرئيس دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية الجزائرية.
وما “فذلكات” الرئيس تبون و “بهلوانياته” إلا محاولات دعائية فاشلة، يعلم هو قبل جنرالاته، استحالة أن تؤدي إلى تحسين حقيقي في حياة الجزائريين، وبالتالي منح النظام أياما إضافية، عبر إبعاد شبح الحراك الشعبي الذي يحوم فوق رؤوسهم ويقض مضاجعهم. ف “حوارهم الوطني” -منذ الآن- إذا قيض له أن يرى النور، فلن يكون مصيره أفضل من مصير باقي مبادرات تبون، أي أنه سيتحول إلى مادة للسخرية، داخل وخارج الجزائر، وسيزيد من نزع المشروعية عن هذا النظام “منتهي الصلاحية”!!