لقد حملت الثورات التي عرفها العالم العربي خلال عام 2011، اسم “الربيع العربي”، كدلالة على بداية حقبة جديدة في عدد من الدول التي أطاح فيها الشباب الثائر بأنظمته المستبدة، على أمل إعادة بناء دول ديموقراطية تعد بغد أفضل، إلا انه وإن كانت هذه الثورات ربيعا بالنسبة لـتونس، فقد شكلت بالنسبة لدول أخرى أبرزها ليبيا، بداية شتاء لم تهدأ معه عواصف الحروب والاقتتال منذ سقوط نظام العقيد القذافي.
مع اندلاع الثورة التونسية ونجاحها في الإطاحة بنظام بن علي، انتقلت شرارتها إلى مصر، التي بدورها تمكنت عبر سلسلة من المظاهرات والاحتجاجات الدامية في ميدان التحرير الشهير، من إسقاط نظام مبارك، بعد 30 سنة من الحكم الاستبدادي.
شكل نجاح النموذجين التونسي والمصري حينها دافعا قويا لدى الشباب العربي الساخط، ليأتي الدور على ليبيا، التي اعتقد شعبها أن الإطاحة بزعيمها معمر القذافي، سيشكل انبعاثا لدولة جديدة متحررة من استغلال زعيم وصفه الكثيرون بـ “غريب الأطوار” والمصاب بجنون العظمة، إلا أن الرياح لم تجري كما اشتهاها الليبيون، لتتحول آمالهم إلى مجرد “أضغاث أحلام”.
مرت أربع سنوات على إطاحة الشعب الليبي بزعيم حاول تنصيب نفسه “ملك ملوك أفريقيا”، تحولت معها ليبيا إلى ساحة اقتتال دائم، تتصارع فيه حكومتان من جهة، ومن جهة أخرى القوات الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر وميليشيات الثوار السابقين. حالة الانفلات الأمني شكلت فرصة ذهبية لتنظيم الدولة الإسلامية الذي استغل الوضع من أجل فرد سيطرته على عدد من المناطق الليبية، أعلن أحدها إمارة له.
أصبحت ليبيا اليوم في وضع لا تحسد عليه، خاصة في ظل المحاولات الأممية لرأب الصدع بين الفرقاء من خلال تشكيل حكومة “وفاق وطني”، حيث قادت البعثة الأممية برئاسة إطفائي النزاع برناردينو ليون جولات حوار خلال سنة كاملة، والتي كلما أبدى طرف مصادقته على بعض بنودها، أصر الطرف الآخر على معارضتها.
إن إصرار الأطراف الليبية على التمديد ” غير المباشر” لأمد الصراع داخل البلاد، بات يهدد مصالح دول الشمال حسب تأكيدات هاته الأخيرة، خاصة مع استغلال مافيات مهربي البشر الانفلات الأمني الذي تشهده ليبيا منذ سنوات، من أجل جني المزيد من الأموال من تهريب المهاجرين غير الشرعيين، خاصة القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، أو السوريين الفارين من بطش الحرب التي تعرفها بلادهم.
في خضم هذا الوضع المقعد، ضمنت القضية الليبية حضورها على طاولة النقاش الدولية، حيث تعمل عدد من الدول الكبرى الأوروبية على إعادة ترتيب أوراقها، خاصة فيما يتعلق بالمياه المتوسطية، التي باتت مسرحا لنشاطات الهجرة السرية المنطلقة أساسا من ليبيا.
ويبدو أن المطالب الأوروبية بتعجيل تشكيل حكومة الوفاق المرتقبة، ودعمها الموعود الذي وصل إلى ملايين الدولارات، لم يكن بمحض الصدفة، بل كان نتيجة للتهديد الذي تمثله الأزمة السياسية والأمنية الليبية، لدول الشمال ومصالحها الاستراتيجية.
ومع تشبث أطراف الحوار الليبية بأسلوب “المراوغة” ومحاولة عرقلة الخارطة الأممية في ليبيا، لم يكن على المجتمع الدولي إلا اللجوء إلى أسلوب التهديد بسن عقوبات قاسية على من اسماهم “معرقلي الحوار”، حيث شكل رفض تشكيلة الحكومة الجديدة التي أعلن عنها ليون قبل أسابيع، فرصة للمجتمع الدولي للتكشير عن أنيابه لمعارضي المقترحات الأممية، والتلويح بعقوبات زجرية في حقهم في حال استمروا على موقفهم المعارض.
وتنضاف المخاوف الدولية من احتمال تكرار السيناريو السوري على الأرض الليبية، خاصة بعد تحدث بعض المنابر الإعلامية الجزائرية عن احتمال توجيه القوات الجوية الروسية ضربات جوية ضد معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا على غرار ما حدث في سوريا.
وحسب ما أفادت به جريدة “الخبر” الجزائرية، فقد لمحت روسيا إلى الجزائر وتونس ومصر بالخطر المتنامي الذي يشكله تنظيم “الدولة” في المنطقة، الأمر الذي دفعها إلى الاستعانة بالقمر الاصطناعي وطائرات استطلاع من أجل التجسس على معاقل داعش في ليبيا، مما يطرح احتمال استنساخ المشهد السوري، والذي لجأت فيه روسيا إلى التجسس على نقط تمركز التنظيم الإرهابي قبل التدخل جويا لتوجيه ضربات له.
ورغم التشكيك في مدى مصداقية هذه المعطيات، إلا أن احتمال التدخل العسكري الروسي يبقى واردا، في وقت تتجه فيه الأنظار في الفترة الأخيرة إلى القوة العسكرية “الضخمة” التي تنتشر بتريث على السواحل الليبية، والتي باتت تزيد من قلق الأطراف الليبية حسب رأي عدد من الخبراء ومراقبي الشأن الليبي.
فالظاهر أن المجتمع الدولي كان جادا هذه المرة، حيث تشهد مياه المتوسط قبالة السواحل الليبية، تمركز أضخم تدريب عسكري لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، حيث يضم أزيد من 36 ألف جندي و230 وحدة عسكرية و140 طائرة وأكثر من 60 سفينة.
وإلى جانب قوات “الناتو” يعمل الاتحاد الأوروبي على نشر عدد من قوة أوروبية من أجل التصدي وضبط سفن مافيات مهربي البشر الناشطة في السواحل الليبية، حيث لوح بالتدخل في حال فشل الحوار الليبي في التوصل إلى اتفاق سياسي.
ومن الواضح أن ليبيا تواجه عدة سيناريوهات خطيرة، خاصة بعد تلويح وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” باحتمال نشر عدد من طائراتها في الجنوب التونسي، وذلك لمراقبة كل من مدينتي صبراتة ودرنة، التي تشكل معبر “للإرهابيين” القادمين من الأراضي السورية، في وقت وصف بعض المسؤولين الأمريكيين المدينتين بقاعدة انطلاق عناصر داعش الإرهابية على غرار كهوف “تورا بورا” بالنسبة لبن لادن وعناصره.
هذا وينضاف الوضع الاقتصادي في ليبيا إلى حزمة المشاكل التي تقلق المجتمع الدولي، خاصة ما يرتبط بالمتاجرة السرية في النفط الليبي، إلى جانب تضرر المصالح الاقتصادية لعدد من الدول الغربية بسبب الصراع الدائر هناك، حيث باتت المؤشرات تلوح بوقوف البلاد على حافة الإفلاس.
إقرأ أيضا:أربع سنوات على مقتل القذافي..هل تخرج ليبيا من متاهتها؟
أمام هذا الوضع شديد التعقيد، يبقى الانتظار سيد الموقف، حيث يتساءل الكثيرون عن مستقبل ليبيا في ظل سياق مشحون بالصراعات، وما إذا كان “الناتو” سيعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ويجدد تدخله في الأراضي الليبية كما فعل في 2011؟ و ما إذا كان المشهد الأفغاني سيتكرر على الأرض الليبية؟